يقول ديفيد إغناتيوس إن فترة ترامب الرئاسية تحمل مخاطر جسيمة على أميركا والعالم على حد سواء. فهذا العالم- كما قال ترامب نفسه خلال حملته الانتخابية- “خطيرٌ للغاية”. لذلك من المفيد الآن، مع بدء الانتقال إلى إدارة جديدة، أن ندرس ما قاله (ترامب) عن تسوية النزاعات، وأن نفكر في الكيفية التي قد يتم بها تنفيذ سياساته المرتقبة من دون الإضرار بالولايات المتحدة أو حلفائها.
ويرى إغناتيوس أن ترامب، وبالرغم من كل تهديداته وخطابه الصاخب، “قدَّم نفسه باعتباره المرشح المناهض للحرب الذي سيعمل مع أصدقائه ــ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ــ لإنهاء الحروب في أوكرانيا وغزَّة ولبنان بسرعة.. وهذا ما أعرب عنه مراراً وتكراراً؛ خلال حملته الانتخابية، بابداء قلقه من أن العالم كله ينفجر”.
وكان ترامب قد وصف الحرب في أوكرانيا على أنها “مسألة تتوق إلى تسوية”. وقال “سأحسم الأمر قبل أن أصبح رئيساً… سأتحدث إلى طرفي النزاع (روسيا وأوكرانيا)، وسأجمعهما مع بعضهما… سأتفاوض على صفقة. لأننا يجب أن نوقف تدمير كل هذه الأرواح البشرية… لا تخدعوا أنفسكم… نحن نجازف بإشعال حرب عالمية ثالثة”.
وعندما سُئل لاحقاً عمَّا إذا كان قد تحدث مع بوتين منذ ترك منصبه في عام 2021، أجاب ترامب: “في حال كنت قد فعلت ذلك، فسيكون ذلك أمراً ذكياً… هذا شيء جيد وليس سيئاً للبلد (أميركا)”.
كان ترامب أيضاً مصراً على أن الحرب في غزَّة يجب أن تتوقف. ففي نيسان/أبريل الماضي، صرّح لصحيفة “واشنطن بوست” أنه “يجب العودة إلى السلام والتوقف عن قتل الناس”. وفي مناظرة مع منافسته كامالا هاريس، في أيلول/سبتمبر، قال: “سأحسم الأمر بسرعة”. وهو أيضاً كان قد أخبر نتنياهو صراحة، في الصيف الماضي، أنه يريد أن تنتهي الحرب بحلول يوم التنصيب، بحسب الصحف الإسرائيلية.
“حماسة” مقلقة
ومع ذلك، يرى إغناتيوس أن هناك العديد من الأسباب التي تدعنا حذرين من “حماسة” ترامب لإبرام صفقات مع أصدقاء دكتاتوريين وسياسيين. فخلال الحملة الانتخابية، سخر الديموقراطيون من ترامب بسبب تعليقاته. وقدَّمت هاريس رداً نموذجياً خلال مناظرتهما: “إنك تعشق الرجال الأقوياء بدلاً من الاهتمام بالديموقراطية”.
ويدعو إغناتيوس إلى تصديق كلام ترامب “في الوقت الحالي”، وإلى التفكير في كيف يمكنه (ترامب) إنهاء الحروب في أوكرانيا وغزَّة بسرعة دون الإضرار بالمصالح الأميركية أيضاً؟
ويقول “إن التفاوض على تسوية عادلة في أوكرانيا هو التحدي الأكثر حساسية. فإدارة الرئيس المنتهية ولايته، جو بايدن، لم تهتم قط بالموضوع، وتركت لأوكرانيا وحدها حرية اتخاذ قرار بشأن شروط السلام”. ويرى إغناتيوس أنه بعد هجوم كييف، العام الماضي، أدرك الأوكرانيون أن لحظة التسوية آتية لا محال.
نتنياهو حقق أهدافه بفضل القوة العسكرية الأميركية: “حماس” مدمرة عسكرياً.. حزب الله مستعد للانسحاب من الحدود.. وإيران عاجزة عن الانتقام
منذ أشهر، كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يستكشف سبل إجراء مفاوضات مع بوتين من موقع قوة. ولهذا السبب أراد الحصول على إذن من واشنطن لإطلاق صواريخ باليستية بعيدة المدى ضد أهداف في العمق الروسي. ولهذا السبب غزّت القوات الأوكرانية منطقة كورسك الروسية. وكانت “خطة النصر” التي طرحها زيلينسكي بمثابة منصة للمفاوضات من نواح كثيرة.
ويعتقد إغناتيوس أن ترامب سيصر على محادثات سلام في أوكرانيا. وأن هذا سيكون كارثياً إذا خطط لفرض إملاءات تُجبر كييف على تقديم تنازلات لضمان سلام سريع. ولكن إذا كان ترامب يريد أن يظهر قوياً ــ وليس كورقة في جيب بوتين ــ فسوف يطالب بأمن أوكرانيا حتى تتمكن من الإزدهار بعد أي تسوية. “فقد قدمت كوريا الجنوبية وألمانيا الغربية وفنلندا والنمسا تنازلات لإرضاء جيرانها المتحاربين ــ واستمرت في تحقيق ازدهار مذهل. وينبغي أن يكون هدف ترامب ضمانات أمنية تسمح لأوكرانيا بعد الحرب بالنجاح كعضو في الاتحاد الأوروبي”.
ويضيف إغناتيوس “إذا أراد ترامب تجربة شيء إبداعي، فسوف يُشرك الصين في هذه المحاولة. يريد زيلينسكي بشدة مشاركة الصين كضابط ضد الإجراءات الروسية المستقبلية”.
يُذكر أن إدارة بايدن سبق وتحدثت عن إشراك بكين لكنها لم تحقق تقدماً. وفي هذا الخصوص، يقول غراهام أليسون، الأستاذ في كلية هارفارد كينيدي: “إذا كان ترامب قادراً على إشراك الرئيس الصيني شي جين بينغ في صنع السلام في أوكرانيا، فيجب أن يتقاسما جائزة نوبل للسلام”.
ويوضح أن دعوة ترامب للتفاوض لإنهاء الحرب في أوكرانيا هي صدى غير متوقع لدعوة الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق. ففي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أعلن ميلي، وسط ذهول البيت الأبيض في عهد بايدن: “عندما تُتاح الفرصة للتفاوض، وعندما يمكن تحقيق السلام، فالواجب اغتنام هذه الفرصة”.
غزَّة ولبنان
وعن حروب إسرائيل في غزة ولبنان وإيران يقول إغناتيوس إن “التسوية ستكون أكثر سهولة”، ويوضح: “بفضل القوة العسكرية الأميركية استطاع نتنياهو أن يُحقّق أهدافه إلى حد كبير، وأصبحت حركة “حماس” مدمرة عسكرياً، وصار حزب الله مستعداً للانسحاب من الحدود.. ولم تتمكن إيران من الانتقام كما أرادت..”.
ويؤكد إغناتيوس أن القادة العسكريين الإسرائيليين يدركون أن الوقت قد حان لإنهاء القتال في غزَّة ولبنان. وأن القادة العسكريين الإسرائيليين أبلغوا واشنطن (الأسبوع الماضي) أنهم حققوا أهدافهم هناك. وربما يرغب نتنياهو في السماح لحليفه وصديقه ترامب بـ”قصّ الشريط”؛ إذا جاز التعبير؛ أي يعلن نهاية الحروب. “لكن هذه الحروب سوف تنتهي قريباً ــ لأن الجيش الإسرائيلي سيطالب بذلك”.
ومن وجهة نظر إغناتيوس، فإن الاختبار الأهم والأصعب الذي سيواجهه ترامب هو ما إذا كان بوسعه أن يحث السعودية والإمارات على المساعدة في خلق حقبة جديدة من الأمن والاستقرار للفلسطينيين. ويقول: “ما لم يكن ترامب أحمقاً، فسوف يهتم بهذا الأمر على أنه أكبر فرصة ستُتاح له خلال رئاسته”.
الواقع أن ترامب محق في أمر واحد: هناك الكثير من الحروب الدائرة في مختلف أنحاء العالم، وهناك حاجة إلى دبلوماسية قوية وخلّاقة لتسويتها
ويضيف إغناتيوس أن ثمة سبب آخر لتشجيع ترامب كـ”صانع سلام”، وهو أنه أعرب منذ فترة طويلة عن قلقه العميق إزاء خطر الحرب النووية. وقد جمع أليسون، الذي شارك في تأليف الدراسة الكلاسيكية لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، مجموعة من تعليقات ترامب المناهضة للأسلحة النووية؛
فخلال مناظرة عام 2016 مع هيلاري كلينتون، قال ترامب: “أكبر مشكلة يواجهها العالم هي التسلح النووي والأسلحة النووية”. وكرَّر هذا التحذير في فعَّالية أقيمت في كانون الأول/ديسمبر الماضي، قائلاً: “بسبب الأسلحة النووية، سوف ننتهي إلى حرب عالمية ثالثة. وستكون حرباً لا مثيل لها”.
الواقع، أن العديد من جوانب فترة رئاسة ترامب المقبلة قد تكون مدمرة للولايات المتحدة. ويحتاج المواطنون الصالحون إلى الحذر من مثل هذه المخاطر. ولكن قسماً كبيراً من عامة الناس أيدوا ترامب لأنهم رأوا فيه زعيماً صارماً قادراً على صنع السلام. وفي هذا السياق، يستحق الدعم ــ ولكن أيضاً المطالبة بحماية المصالح الأميركية في أي مفاوضات تنتظرنا، بحسب إغناتيوس.
– ترجمة بتصرف عن “واشنطن بوست“.
(*) ديفيد إغناتيوس، صحافي وروائي. محرر الشؤون الخارجية في صحيفة “واشنطن بوست”.