ديناميكية الأحداث في سوريا تتجاوز تركيا، التي لا شك أنها الرابح الأكبر من إعادة رسم الخريطة السورية، إلى الولايات المتحدة التي تُوظّف الاختراق الكبير في الجدار السوري، لإخراج إيران وروسيا من الموقع المتقدم الذي وفّرته لهما دمشق. يبدو الأمر مستنداً إلى قاعدة “ربح كل شيء مقابل خسارة كل شيء”.
وإذا كان زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني الذي استخدم للمرة الأولى اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، في المقابلة مع شبكة “سي إن إن” الأميركية المتلفزة، في حاجة إلى ضوء أخضر تركي ليشن هجومه، فإن تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (النانو)، في حاجة إلى ضوء أخضر أميركي، لفتح الجبهات السورية كما لم يحدث منذ أكثر من 13 عاماً.
لم تستند واشنطن على ضعف إيران و”حزب الله” في ضوء الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد لبنان، بل ذهبت للربط بين ساحتي سوريا وأوكرانيا. وُضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام خيار صعب قبل أن يتولى دونالد ترامب الرئاسة رسمياً في 20 كانون الثاني/يناير المقبل. عليه أن يختار بين أن يُحوّل جزءاً مهماً من الموارد الروسية لإنقاذ سوريا والحفاظ على موطىء قدم في المياه الدافئة (البحر الأبيض المتوسط)، أو أن يعتبر أن مدينة بوكروفسك في منطقة دونتيسك بإقليم الدونباس بشرق أوكرانيا، تحتل الأولوية الآن، فضلاً عن مواصلة الضغط لإخراج الجيش الأوكراني مما تبقى من كورسك الروسية.
من يربح سوريا تكون له غلبة في المنطقة. ويقول الباحث في معهد واشنطن ليساسات الشرق الأدنى أندرو تابلر: “إنه تحوّلٌ زلزاليٌ. لقد تدخلت فوى إقليمية ودولية في سوريا قبل عقد والآن تتداخل نزاعات أوكرانيا وغزة ولبنان دفعة واحدة” في سوريا
بايدن و”لحظة سايغون”!
استبق الرئيس الأميركي المنصرف جو بايدن خلفه ترامب، بتفجير المعادلة السورية بوجه بوتين. الخيار المطروح الآن، سوريا أو أوكرانيا. لا يمكن كسب الحربين. انقلبت المعادلة التي كانت سائدة منذ العام 2015 عند ذروة التدخل الروسي في سوريا الذي أنقذ دمشق وحال دون انهيار النظام قبل تسع سنوات ونيف.
إن اليقين الأميركي بمحدودية قدرة روسيا على التدخل عسكرياً لتغيير موازين القوى، ينطبق كذلك على إيران. تلك النتيجة أفرزتها الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة ومن ثم ضد لبنان. سيستفيد ترامب من هذا الرصيد لينطلق منه في التفاوض مع إيران نووياً وإقليمياً، ولكن بفارق غير قليل وهو ضعف الأذرعة في كل من فلسطين ولبنان وتلاشيها في سوريا وتحييدها إلى حد كبير في العراق، وبالتالي اسقاط منطق “وحدة الساحات”.
أمام هذا الواقع، فضّلت إيران وروسيا التواصل مع تركيا للحد من اندفاعة المجموعات المسلحة بقيادة أبو محمد الجولاني. لكن أنقرة تريد ثمناً سياسياً كبيراً، كونها تحوّلت الآن إلى اللاعب الأقوى الذي يتحكم بمستقبل سوريا.
ورجب طيب أردوغان الضعيف الذي هرع في العام 2020، إلى موسكو وانتظر على باب فلاديمير بوتين في الكرملين كي يُبرم تفاهمات “خفض التصعيد”، في ضوء الهجوم الذي شنّه الجيش السوري بغطاء جوي روسي ودعم بري من القوى المتحالفة مع إيران على ريف حلب الجنوبي وإدلب، هو اليوم أقوى مما كان في العام 2011، عندما قاد موجة صعود الإسلام السياسي في مصر وسوريا وتونس وليبيا تحت مسمى “الربيع العربي”.
يُذكّر أردوغان، اليوم، كلاً من روسيا وإيران، بأنه مدّ يده للرئيس السوري بشار الأسد منذ أكثر من سنة، وبأن الأخير لم يستجب. وبذلك، يرفع عنه مسؤولية أنه لم يحاول البحث عن حل بالوسائل الديبلوماسية، وأن الأمر متروك الآن للميدان الذي حدّد أفقه بالوصول إلى دمشق، أي الإمساك بالسلطة بالكامل.
وهنا تصل “لعبة الأمم” إلى ذروتها. في هذا السياق، تُشبّه الباحثة في معهد كارنيغي للسلام الدولي نيكول غراجويسكي الأمر بالنسبة لروسيا بـ”لحظة سايغون” عندما أرغمت الولايات المتحدة على الانسحاب من فيتنام الجنوبية عام 1975.
منذ عهود بطرس الأكبر وكاترين الثانية كان الحلم الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة، رمزاً لتحدي الغرب وإظهاراً لروسيا كقوة عالمية. واستند بوتين على نجاح تدخله في سوريا ليبسط مزيداً من النفوذ في المنطقة وشمال أفريقيا وليضطلع بدور أكبر في المنطقة ويُوطّد علاقاته مع دول الخليج ومع إيران وإسرائيل في الوقت نفسه.
ومع ذلك، تنقل صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن الباحث البارز في مركز التحليلات الاستراتيجية والتكنولوجية ميخائيل باربانوف الذي يتخذ موسكو مقراً له، أن “بوتين أخفق في اقناع الأسد بالدخول في تسوية سياسية مع مساحات واسعة من البلاد، مما جعله عرضة لجولة جديدة من العنف”.
قيام نظام سني إسلامي متشدد في سوريا، يستدعي الكثير من التساؤلات حول ما سيتركه من تأثيرات على دول الجوار، وخصوصاً لبنان والعراق والأردن، وهل ستكون هذه الدول أمام موجات لجوء جديدة هرباً من النظام الجديد؟ أم هل سيكتفي الإسلاميون بعد إحكام قبضتهم على سوريا في حصر أجندتهم بالداخل السوري، أم سيتمددون إلى الخارج؟
الغلبة لمن يربح سوريا!
هل تُخاطر أميركا من أجل إخراج إيران وروسيا من سوريا بتسليمها للإسلام السياسي وأردوغان.. والفوضى؟
عندما عادت حركة “طالبان” الأفغانية إلى الحكم عام 2021 عقب الانسحاب الأميركي، وعدت بتشكيل حكومة جامعة لكل القوى والأعراق والمذاهب في أفغانستان. لم يحدث شيء من هذا، وعمدت حتى إلى منع الفتيات من التعليم.
ومهما حاول الإعلام الغربي إضفاء طابع الاعتدال على الجولاني وتقديمه بصورة المنقلب على ماضيه في التعاون مع زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي أو لصلته في ما بعد بـ”القاعدة”، وإعلانه الاستعداد لحل “هيئة تحرير الشام” مع إمساكه بسلطة القرار في دمشق واستعداده للانتقال إلى “حكم مؤسسي” في المستقبل، يبقى أن سجل الجولاني في إدارة “إمارته” في إدلب لا يوحي بالتفاؤل. وشهدت إدلب احتجاجات على القمع الذي مارسته “هيئة تحرير الشام” في حق المعارضين لقراراتها ومن بينها زيادة الضرائب وتعرض المعتقلين للتعذيب.
ثم أن قيام نظام سني إسلامي متشدد في سوريا منذ اليوم، يستدعي الكثير من التساؤلات حول ما سيتركه من تأثيرات على دول الجوار، وخصوصاً لبنان والعراق والأردن، وهل ستكون هذه الدول أمام موجات لجوء جديدة هرباً من النظام الجديد؟ أم هل سيكتفي الإسلاميون بعد إحكام قبضتهم على سوريا في حصر أجندتهم بالداخل السوري، أم سيتمددون إلى الخارج؟ وما مصير الإدارة الذاتية للأكراد في شمال شرق سوريا؟
الجواب على السؤال الأخير أتى مع سيطرة “قسد” على معبر البوكمال الحدودي بين العراق وسوريا لتقطع بذلك التواصل بين طهران ودمشق. وكان هذا أحد أبرز أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان.
سوريا الواقعة في قلب الشرق الأوسط، تُؤثّر فيه ويُؤثّر فيها. كانت على الدوام محل صراع بين قوى إقليمية ودولية. ومن يربح سوريا تكون له غلبة في المنطقة. ويقول الباحث في معهد واشنطن ليساسات الشرق الأدنى أندرو تابلر: “إنه تحوّلٌ زلزاليٌ. لقد تدخلت فوى إقليمية ودولية في سوريا قبل عقد.. والآن تتداخل نزاعات أوكرانيا وغزة ولبنان دفعة واحدة” في سوريا.
مع سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد فجر الأحد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، تنطوي مرحلة تاريخية في الشرق الأوسط وتبدأ مرحلة جديدة ستكون حافلة بالأحداث والأسئلة، سواء ما يتصل بسوريا نفسها أو علاقتها بالجوار أو التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة.