ترامب وإيران.. الواقعية السياسية قابلة للاستثمار “نووياً”!

كنتُ واحداً من المُتحمسين لفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، إستناداً إلى فرضية انخراطه السريع في مفاوضات نووية محتملة مع إيران لحل ملفها برمته، خصوصاً وأن سلفه جو بايدن أظهر ضعفاً كبيراً في مقاربة معظم الملفات الخارجية وإدارتها.

لنأخذ الملف الإيراني على سبيل المثال لا الحصر؛ كان جو بايدن يتقدم خطوة ويتراجع خطوتين إلى الوراء، برغم أن العودة إلى “الاتفاق النووي” كانت في صلب البرنامج الانتخابي لولايته اليتيمة؛ وكذا الأمر مع باقي الملفات ومنها حرب غزة حيث زار وزير خارجيته أنطوني بلينكن منطقة الشرق الأوسط أكثر من 12 مرة لكنه فشل ـ وغيره من الموفدين الأمريكيين ـ في تنفيذ وقف النار علی الرغم من موافقة حركة حماس علی الخطة التي طُرحت منذ ربيع العام 2024 وشكّلت ركيزة لقرار وقف النار الذي فرضته إدارة ترامب بعد أقل من أسبوع من دخول الرئيس العائد إلى البيت الأبيض في مطلع العام 2025.

ولا يختلف إثنان في إيران على أن كلاً من الحزبين الديموقراطي والجمهوري عملا من خلال العقوبات وباقي “الضغوط القصوى” على مواجهة إيران منذ العام 1980؛ إلا أن كل “فنون المواجهة”، وبعضها لا مثيل له في التاريخ، لم تؤدِ إلى نتيجة حاسمة..

وثمة قناعة عند العديد من الخبراء الإيرانيين بأن “الاتفاق النووي” لو تم التوقيع عليه في عهد الجمهوريين، لن يجرأ الديموقراطيون على الانسحاب منه كما فعل الرئيس الجمهوري دونالد ترامب؛ ولذلك فإن أي اتفاق محتمل يمكن أن يتم التوقيع عليه بين الرئيس الأمريكي الحالي والقيادة الإيرانية يُمكن التعويل عليه حتی وإن استدعی الامر توفير ضمانات متبادلة؛ أو أن ينال موافقة الكونغرس فإنه الأخير لن يتردد في إعطاء مثل هذه الضمانات التي طالبت بها طهران لكن بايدن رفض توفيرها، استناداً للسلوك المتردد وعدم امتلاكه الشجاعة الكافية لاتخاذ هكذا قرارات.

الإرادة السياسية إذا ما توافرت عند الإدارة الأمريكية الجديدة يُمكن تلمس مسارات ومقاربات للحل؛ وبالتالي ثمة مؤشرات صدرت من الفريق المحيط بالرئيس ترامب تدفع بالمشهد لأن يكون متفائلاً في السعي لايجاد حل لهذه الأزمة المزمنة

لا أريد أن أصطف الی جانب الرئيس ترامب وأدعم جميع توجهاته؛ لكن المؤشرات التي تلقتها طهران قبل دخول ترامب إلى البيت الابيض كانت مشجعة في مقابل مؤشرات مشجعة أيضاً أرسلتها طهران عبر الترويكا الأوروبية أو عبر وسطاء آخرين أو عبر تصريحات أطلقها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بالتعبير عن رغبته بفتح مفاوضات “مباشرة” مع الولايات المتحدة من أجل تسوية المشاكل العالقة بين الطرفين وصولاً إلى رفع العقوبات الإقتصادية المفروضة علی إيران.

أنا أتفهم طبيعة العلاقة الشائكة والمعقدة بين طهران وواشنطن والمستمرة منذ أكثر من 70 عاماً والتي لا يمكن حلها بين ليلة وأخرى؛ كما أن طبيعة العقوبات المفروضة علی إيران لا يمكن أن تُرفع بهذه البساطة بسبب تعقيد القوانين الأمريكية المرتبطة بهذا الشأن خصوصاً تلك التي تفرضها وزارة الخزانة الأمريكية والتي يحتاج رفعها إلى موافقة الكونغرس؛ إلا أن الإرادة السياسية إذا ما توافرت عند الإدارة الأمريكية الجديدة يُمكن تلمس مسارات ومقاربات للحل؛ وبالتالي ثمة مؤشرات صدرت من الفريق المحيط بالرئيس ترامب تدفع بالمشهد لأن يكون متفائلاً في السعي لايجاد حل لهذه الأزمة المزمنة.

لقد أعطت التطورات التي نشأت إثر السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 انطباعات جديدة للجانبين الأمريكي والإيراني بضرورة وضع مقاربات جديدة لأن مصالح الجانبين لا يُمكن أن تتعرض لتطورات مشابهة كما أن الوقوف إلی جانب الكيان الإسرائيلي في تهديداته وتصوراته الاقليمية لا يُمكن أن يضمن ويحمي الأمن القومي الأمريكي في الإقليم.

أما في إيران، فما يزال الاصطفاف قائماً بين مؤيد ومعارض للدخول في مفاوضات مع الجانب الأمريكي. ففي الوقت الذي تری الأوساط القريبة من الحكومة الإيرانية أن الوقت قد حان للدخول مع واشنطن في مفاوضات مباشرة تضمن رفع العقوبات وازالة المخاوف التي نشأت دولياً عن تمسك إيران ببرنامجها النووي؛ في حين ما يزال فريق آخر في القيادة الإيرانية يری أن المفاوضات سوف تُدخل إيران في نفق مظلم لا طائلة منه وستكون النتيجة المزيد من ابتزاز إيران وحشرها في زاوية حرجة لتحجيمها وحصرها في حدودها الأربعة لا حول لها ولا قوة. وبين هذا وذاك يقف الملف الإيراني منتظراً اكتمال المشهد الأمريكي الذي يتأثر بعديد العوامل والتطورات ولربما أاكثرها أهمية هو استحقاق 25 تشرين الأول/أكتوبر القادم، تاريخ انقضاء عمر “الاتفاق النووي” الموقع عام 2015؛ ومدی رغبة الرئيس ترامب بتفعيل آلية “سناب باك” الواردة في “الاتفاق النووي” التي تؤهلها لعودة كافة العقوبات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي.

واللافت للانتباه أن الرئيس ترامب أبعد ثلاث شخصيات معادية جداً لطهران من فريقه الجديد كانت تعمل معه سابقاً: الأولی، جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق الذي كان أبعده في ولايته الأولی. الشخصية الثانية هي وزير الخارجية السابق مايك بومبيو. الثالثة هي المبعوث الأميركي الخاص بإيران براين هوك، الذي كان يقود الخط المتشدد تجاه طهران في ولاية ترامب الأولى. هذا لا يعني أن من عيّنهم ترامب في الخارجية ومستشارية الأمن القومي هم من الحمائم؛ علی العكس هم من صقور الصقور؛ لكن هذه المؤشرات ربما تُعطي انطباعاً إيجابياً لفتح باب المفاوضات خصوصاً اذا ما تم الدخول إليها من أبوابها الطبيعية المؤثرة.

إقرأ على موقع 180  إنتخابات 2022.. الولاء الأعمى للزعيم بالخوف والحاجة!

ما زلت أعتقد أن منصة سلطنة عُمان التي عملت علی انجاز الاتفاق النووي عام 2015 تمتلك من المؤهلات والسياقات راهناً ما يجعلها الأقدر على ترتيب الأبواب المناسبة خصوصاً أن طهران اتخذت قرارها بالدخول في المفاوضات بشكل مباشر لجعل المفاوضات جادة ومفيدة ومثمرة.

وإذا كان صحيحاً أن ترامب صاحب “الصفقات الكبری”، فالصحيح أيضاً أن إيران تجيد إبرام مثل هذه الصفقات شريطة أن تتلقی مؤشرات أكثر وضوحاً تتحرك بواقعية علی الأرض وليس من “كوكب آخر”.

(U2saleh@gmail.com)

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  زيارة بايدن للمنطقة.. فاقدُ الشيء لا يُعطيه!