“هآرتس”: “الإنجازات” الإسرائيلية.. كارثة استراتيجية!

شهد العام الماضي تحولات إقليمية كُبرى تصب في مصلحة إسرائيل. لكن من السابق لأوانه اعتبارها تحولات يُبنى عليها. فالحكم على الوقائع بمنظور سياسة إسرائيل، أو ما تبقى منها، يعني أن ما نعتبره "حقائق بديهية" سيتلاشى مفعولها قبل أوانه، بحسب ألون بنكاس في صحيفة "هآرتس"(*).

لا شكّ أن تعرض قوة إيران الجيوسياسية لإنتكاسة يُعدّ مكسباً استراتيجياً إيجابياً لإسرائيل. لكن مقابل هذا “المكسب” هناك عداء متزايد لإسرائيل ينتشر في مختلف أنحاء العالم. وهناك تعاطف يتنامى مع القضية الفلسطينية التي عادت إلى واجهة الإهتمام العربي والإقليمي والدولي، برغم الإصرار الإسرائيلي على النكران. وهناك أيضاً خسارة مشؤومة لأدوات الضغط في واشنطن في ضوء الصراعات الإقليمية الواقعة وهوية الرجل الذي يدير البيت الأبيض اليوم، الرئيس دونالد ترامب.

هذه كلها سلبيات استراتيجية بالقدر نفسه، من حيث النطاق والمعنى. وبالتالي يصبح إعتبار “نكسة” إيران الجيوسياسية على أنه “مكسب” و”حقيقةً بديهيةً” موضع طعن.

ما هي التطورات التي تعوّل عليها إسرائيل وتعدّها “حقائق بديهية”؟

على الصعيد العسكري، لقد تم إضعاف حركة “حماس”، ولكن لم يتم القضاء عليها، كما تعهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، واشترط لوقف الحرب على غزَّة.

كذلك تعرض حزب الله لهجمات قاسية طالت قياداته السياسية والعسكرية وقدراته التسليحية والردعية التي كان يتمتع بها في مواجهة إسرائيل لسنوات عديدة. وصحيح أيضاً أن الحزب لم يعد بمستطاعته الحصول على الدعم ذاته الذي كانت توفره له إيران. فبعد انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، يمكن القول إن القناة البرّية الرئيسية لإمدادات الأسلحة إلى حزب الله قد تم القضاء عليها، في الوقت الحالي.

لكن، وبرغم كل ذلك، حزب الله أيضاً لم ينته ولم ينهزم.

لقد عانت إيران من نكسات استراتيجية كبرى، ولو كانت مؤقتة. فبرغم أنها نجحت في شنّ هجوم على إسرائيل استخدمت فيه الصواريخ والطائرات الحربية المسيَّرة. وبرغم أنها قد تكون قادرة على معاودة شنّ هجمات مماثلة. إلا أنه يمكن القول إن قدرتها على إدارة “محور المقاومة” قد ضعفت، كما تراجع نفوذها في المنطقة وانكشفت نقاط ضعفها، خصوصاً بعد تعرض حزب الله لما تعرض له. فالهجوم الإسرائيلي على أراضيها نجح في تدمير أنظمة كشف عن الصواريخ وأنظمة دفاع جوي. كذلك نجحت إسرائيل في اختراق أجهزة الاستخبارات الإيرانية.

ثم سُرعان ما غادرت روسيا، حليفة إيران، سوريا، وفضَّلت التفرغ لإدارة حربها في أوكرانيا والإستعداد لمفاوضات وقف إطلاق النار هناك- المتوقعة في الأشهر المقبلة. لقد خرجت فعلياً من الشرق الأوسط. وهي، وإن بقيت تحتفظ بقاعدة عسكرية على الساحل السوري وببعض المصالح في المنطقة، لكن لم يبق لديها أي شيء إيجابي لتبيعه أو تُسوّقه في المنطقة.

هذا كله يضع إيران أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: بلوغ العتبة النووية، وتطوير قدراتها النووية العسكرية والمجازفة بحرب كبرى. أو الانخراط في صفقة جديدة لنزع السلاح النووي والإشراف عليه من موقع ضعيف.

أضف إلى ذلك أن كل الدلائل تشير إلى أن السعودية لا تستبعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لكنها تشترط ظروفاً معينة لإتمام الصفقة. فهي من الدول التي بإمكانها أن يكون لديها نفوذ لدى الإدارة الأميركية الجديدة، وتأثير على ترامب نفسه. كما أنها مؤخراً حققت تقارباً مع إيران، وشهدت علاقاتهما الثنائية تحسناً ملموساً بالفعل. وهي أيضاً مقرَّبة من الصين (التي توسطت بين طهران والرياض في عام 2023).

العقلية السائدة في إسرائيل، والتي ترى أن الدولة الفلسطينية غير قابلة للتحقيق وغير مرغوب بها، وأنها ستُعجّل بوقوع المزيد من أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر “قصيرة النظر”.. والواقع أن الوضع الراهن والتمسك بـ”حل الدولة الواحدة”، هو ما سيؤدي إلى أكثر من عملية “طوفان الأقصى”

وهذا ما يقودنا إلى وضع الفلسطينيين أنفسهم. قد تكون عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تسبَّبت في تراجع التطلعات السياسية الفلسطينية بشكل شامل.

لقد تعرض قطاع غزَّة لدمار شامل، وأصبح غير صالح للسكن. السلطة الفلسطينية ضعيفة وغير فعّالة وغير قادرة على أداء وظائفها. الحكومة الإسرائيلية تعتقد أنه بإمكانها ضمّ مساحات واسعة من الضفة الغربية خلال الأشهر المقبلة.

كلُ هذا، وعُزلة إيران وهشاشة نفوذها في الوضع الراهن، قد يرقى إلى انتصار استراتيجي إسرائيلي، بحسب “الحقائق البديهية” التي تتبناها حكومة بنيامين نتنياهو.

الخلل في سياسة إسرائيل

ولكن هناك تفسير مخالف لكل الأحداث والعمليات التي ذُكرت أعلاه. وهذا التفسير المخالف يبدأ بالفلسطينيين. فالكارثة المروّعة التي حلَّت بإسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى”، والحرب المدمرة على قطاع غزَّة وأهله، لم تؤدِ سوى إلى تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والواقع أن القضاء على “حماس”- إن تمَّ – لن يغير قيد أنملة من التوازن الديموغرافي الواقع بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

أقل ما يمكن أن يُقال عن العقلية السائدة في إسرائيل، والتي ترى أن الدولة الفلسطينية غير قابلة للتحقيق وغير مرغوب بها، وأنها ستُعجّل بوقوع المزيد من أحداث عملية “طوفان الأقصى”، أنها “قصيرة النظر”. في الواقع، إن الوضع الراهن والتمسك بـ”حل الدولة الواحدة”، هو ما سيؤدي إلى المزيد من أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

إقرأ على موقع 180  "الاثنين الأسود" بين النفط الصخري واكتتاب "أرامكو"

إن الخلل الأساسي في سياسة إسرائيل يتلخص في الفشل المتعمد والمتهور في تحديد الأهداف السياسية للحرب على غزَّة، ثم رفض الانخراط في أي إطار سياسي بعد الحرب. فعندما لا يكون للحرب أهداف سياسية، وعندما لا تكون الوسائل العسكرية مستمدة من أهداف سياسية، حتى أعظم الإنجازات العسكرية تصبح سلعة قابلة للتلف بسهولة وسُرعان ما تذهب سُدى.

إن السعودية هي الطرف الإقليمي الرئيسي الوحيد، اليوم، الذي يملك نفوذاً حقيقياً محتملاً على ترامب. ففي مكالمة هاتفية مع ترامب (الأربعاء الماضي)، وعد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأن السعوديين سيزيدون استثماراتهم وتجارتهم مع الولايات المتحدة بما لا يقل عن 600 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة. ومن المفترض أن يشمل ذلك صفقة أسلحة ضخمة بقيمة 40 إلى 60 مليار دولار.

وسوف يطلب السعوديون من ترامب إشراك إيران في صفقة نووية جديدة، وقد يصرون على عملية سياسية إسرائيلية فلسطينية ذات مغزى تقوم على مبدأ إنشاء الدولة الفلسطينية كشرط لأي نوع من العلاقات مع إسرائيل. وسوف يطلب ترامب من السعوديين استخدام نفوذهم في منظمة “أوبيك” لخفض أسعار النفط، وهي أداة جيدة يستخدمها ترامب ضد نظيره الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

ترامب يتعامل مع الأمور بطريقة تجارية. والسعوديون أيضاً قادرون على التعامل مع الأمور بطريقة تجارية. أما إسرائيل فلا تستطيع ذلك؛ فهي لا تملك أي نتائج ملموسة لأنها لا تمتلك أهدافاً سياسية محدَّدة؛ لا في غزَّة ولا في الضفة الغربية.

ثم هناك الرأي العام العالمي. فالعداء المتزايد لإسرائيل له مبرَّرات كثيرة. والانتقادات الموجهة إلى إدارة الحرب على غزَّة واسعة النطاق. لقد أصبحت إسرائيل منبوذة ومكروهة. كما أن مزاعمها حول التهديد الإيراني يمكن قبولها فقط باعتبارها قضية إسرائيلية داخلية، وليست قضية عالمية. وهذا لا يقلّ أهمية عن ضرب حزب الله: ما تُعدّه إسرائيل “انجازاً” في هذا الخصوص، هو في الواقع كارثة استراتيجية عندما يتعلق الأمر بسُمعة إسرائيل وقيمها الأخلاقية، نظراً لما اقترفت أياديها في لبنان.

الجانب الإيجابي هنا هو أن إسرائيل هي التي تتحمل مسؤولية تشكيل البيئة المحيطة بها من خلال صياغة سياسات ذكية، بدءاً بالفلسطينيين. أما الجانب السلبي فهو أن مثل هذه السياسات لا يمكن أن تتشكل، ولن تتشكل في ظلّ وجود شخص مثل نتنياهو وحكومة يمينية متطرفة على رأس السلطة في البلاد.

– ترجمة بتصرف عن “هآرتس“.

(*) ألون بينكاس، دبلوماسي إسرائيلي سابق، عمل مستشاراً للعديد من رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية الإسرائيليين.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حكومة دياب تفوز بثقة البرلمان.. و"العالم" ينأى بنفسه عنها