

جاءت مواقف ترامب المتتالية في ظل انسداد آفاق التسويات الخارجية سواء في ما يتعلق بملف الحرب الروسية الأوكرانية أو الحرب التجارية مع الصين أو حرب غزة، وبالتالي تتبدى أمامه فرصة جدية لتحقيق انجاز في الملف النووي مع إيران، قبيل بدء العد العكسي لترشيحات جائزة نوبل للسلام للعام 2025.
وكان لافتاً للانتباه أنه قبيل اعلانات ترامب “التهديدية” بشأن التخصيب، أورد موقع “إكسيوس” الأمريكي أن الإقتراح الذي تقدمت به الولايات المتحدة لإيران مؤخراً، عبر سلطنة عُمان، يتضمن بنداً يُجيز لطهران تخصيب اليورانيوم بنسبة محددة (3%) في اطار اتفاق نووي جديد يتضمن نظام رقابة مشدد واتفاقاً مرحلياً على خفض التخصيب.
غير أن أياً من الأطراف المعنية لم تُعلّق على التسريبات الأمريكية، وتزامن ذلك مع بقاء موعد الجولة السادسة من المفاوضات الأمريكية الإيرانية مُعلقاً في ظل تقديرات متبادلة بأنها ستكون “جولة حاسمة”، وهو الأمر الذي عبّرت عنه مناقشات وزير خارجية إيران عباس عراقجي في القاهرة، كما في بيروت لاحقاً.
وكان وزير خارجية سلطنة عُمان بدر البوسعيدي قد زار طهران، قبل نحو أسبوع، بصورة سريعة وخاطفة، وذلك غداة زيارة للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى العاصمة العُمانية، مسقط، التقى خلالها سلطان عُمان هيثم بن طارق، وتمحور البحث بين الجانبين على ملف المفاوضات الأمريكية الإيرانية. ونقل البوسعيدي رسالة من المفاوض الأمريكي ستيف ويتكوف إلى القيادة الإيرانية تضمنت مقترحات تهدف إلى تسوية المشكلة النووية مع إيران، والخروج من الانسداد الذي بلغته المفاوضات علی خلفية الخطوط الحمر التي وضعها الجانبان بشأن تخصيب اليورانيوم.
ويشترط اقتراح ويتكوف، حسب “إكسيوس”، حظر إنشاء منشآت تخصيب جديدة، تفكيك البنى التحتية الحيوية لمعالجة وتحويل اليورانيوم، بالإضافة إلى وقف تطوير أجهزة طرد مركزي جديدة والأبحاث المتعلقة بهذا الشأن، بحسب التقرير الأمريكي، ويشمل المقترح تشكيل ائتلاف إقليمي لتخصيب اليورانيوم، ضمن شروط أبرزها حظر تطوير قدرات تخصيب تتجاوز الاستخدامات المدنية. وبعد التوقيع، تلتزم إيران بخفض مستوى التخصيب إلى 3% لفترة مؤقتة تُحدَّد خلال مفاوضاتها مع الأمريكيين.
وينص كذلك على جعل منشآت التخصيب تحت الأرض “غير فعّالة” خلال مدة يتفق عليها الطرفان، وتقييد أنشطة التخصيب في المنشآت فوق الأرض بما يتوافق مع المتطلبات اللازمة لإنتاج وقود للمفاعلات النووية، كما تحددها الوكالة الدولية للطاقة.
ويتضمّن المقترح الأميركي “نظام رقابة وتحقق صارم”، يشمل المصادقة الفورية على “البروتوكول الإضافي” للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما يسمح بفرض آليات رقابة دولية مشددة على البرنامج النووي الإيراني.
وثمة معلومات غير رسمية عن اقتراح الجانب الأمريكي انشاء مجمّع عربي إيراني أمريكي مشترك لتخصيب اليورانيوم لكن لم يُعرف أين سيكون مقر المجمع سواء داخل إيران أم خارجها، واذا كان خارج إيران، ما هو مصير أجهزة وأنشطة التخصيب التي تمتلكها إيران وهي من الجيل السابع؟ وقبل ذلك ما هو مصدر الكعكة الصفراء التي تستخدم للتخصيب؟ إيران أم ثمة مصدر آخر؟
اشكاليات متعددة قال الجانب الإيراني إنه يدرسها قبل أن يُحدّد موقفه النهائي بشأنها، لكن الواضح أن أي رد من طهران سيأخذ بالاعتبار كافة النتائج المترتبة علیه سواء بالقبول أو الرفض لأن هذه النتائج “ستكون مكلفة لطهران”، ربطاً بالتهديدات الأمريكية.
واللافت للانتباه أن هذه هي المرة الأولی منذ بدء المفاوضات في 19 نيسان/أبريل الماضي التي يُقدّم خلالها المفاوض الأمريكي اقتراحاً مكتوباً، حيث تزامنت هذه الخطوة مع تسريب “متعمد” لمحتوی تقرير يريد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفائيل غروسي تقديمه إلى اجتماع مجلس محافظي الوكالة المذكورة المقرر عقده في يوليو/تموز القادم.
هذا التزامن (المقترح الأمريكي وتقرير رفائيل غروسي) لم يكن عادياً ولا طبيعياً وإنما عبارة عن تلويح بـ”العصا والجزرة” للضغط الأقصی علی الجانب الإيراني للقبول بالمقترح الذي تقدمت به الولايات المتحدة.
ويحمل تسريب محتوی تقرير مدير الوكالة الدولية في مثل هذه الظروف دلالات مهمة. لكأنه يُريد القول إن إيران مستمرة في عمليات انشطة التخصيب المرتفعة التي تصل إلی 60% وأن ما تملكه إيران اليوم من اليورانيوم المخصب بهذه النسبة (408 كيلوغرامات) زادن بنسبة 50%عما كانت تملكه في فبراير/شباط الماضي، وأنها تستطيع صنع 8 قنابل نووية، لأن كل 40 كيلوغراماً صالحة لصنع قنبلة نووية، لكن التسريبات أكدت مرة أخری أن فرق التفتيش لم تعثر علی ما يفيد بتوجه إيران لعسكرة برنامجها النووي.
وفي نظرة “فنية” و”نفسية” لهذه التسريبات يظهر جلياً أن التسريبات لا تتضمن جديداً. فهي تؤكد علی قدرة الوكالة الكاملة بالاشراف علی البرنامج النووي الإيراني وأن جميع الأنشطة تجري تحت عيون فرق التفتيش التي استطاعت الحصول علی هذه المعلومات في الوقت الذي تٌقر فيه هذه الفرق أنها لم تعثر علی ما يفيد باتجاه إيران نحو حيازة أو تصنيع الأسلحة النووية. لكن “عصا” التسريبات هدفها القول إن إيران تستطيع راهناً صناعة 8 قنابل نووية وهذه وحدها كافية لاقناع مجلس الأمن الدولي أن إيران تُشكّل خطراً علی الأمن والسلم العالميين. وفي حال تم ترحيل الملف الإيراني إلی أروقة مجلس الأمن الدولي، فإن بوادر الحرب التي تُلوّح بها الولايات المتحدة تكون ممكنة دولياً.. وهذه هي أبعاد “العصا”.
أما “الجزرة” فتتمثل بالاقتراح الأمريكي الذي نقله الوسيط العماني الذي يُعطي إيران امتيازات شراكة صناعية ونووية واستثمارات واندماج في النظامين العالمي والإقليمي ورفاهية مكتوبة علی الورق لكي تُفكّر بها إيران، وبالتالي تُقرّر أين تُريد أن تقف؟
وثمة اعتقاد سائد أن إيران التي ضحت كثيراً من أجل هذا البرنامج ودفعت في سبيل الوصول إليه أفدح الأثمان والضرائب من الصعب عليها أن تقبل بوعود غير مضمونة من دولة لا تثق بها، ولا بقيادتها، ولا باجراءاتها، ولا بسلوكها الذي تعتبر وظيفته “الهيمنة علی خلق الله في هذا الكوكب”. لكنها في الوقت ذاته لا تريد بلوغ الطريق المسدود مع الجانب الأمريكي بل ترويضه للوصول الی ما يحفظ حقها في امتلاك “الدورة الكاملة للتقنية النووية” بما في ذلك أنشطة التخصيب في إطار مبادىء ومواثيق الوكالة الدولية للطاقة التي ترعی وتراقب وتساعد الأنشطة النووية السلمية لأعضائها.
وقال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إن بلاده تعكف علی دراسة المقترح قبل أن تُعطي رأيها فيه، وهناك عدة خيارات هدفها محاولة تبديد القلق عند الجانب الأمريكي حيال البرنامج النووي الإيراني من جهة ورفع العقوبات الاقتصادية عن إيران من جهة ثانية.
لكن يجب علينا أن لا نُغفل أن تقرير المدير العام للوكالة الدولية يشي بمخاطر حقيقية؛ فإذا أصدر مجلس محافظي الوكالة قراراً بشأنه وأقرّ أن النشاط الإيراني يُهدّد الأمن والاستقرار العالميين، فهذا يعني وضع إيران تحت الفصل السابع الذي لا يُمكن أن تخرج منه إلا بحرب، وفق النموذج العراقي. أما السيناريو الآخر فهو أخذ الترويكا الأوروبية لهذا التقرير والاستناد عليه في تفعيل آلية “سناب باك” الواردة في الاتفاق النووي الذي احتضنه القرار الأممي الرقم 2231 لتفعيل ستة قرارات مقاطعة دولية أصدرها مجلس الأمن الدولي قبل العام 2015.
وبطبيعة الحال تدرك إيران خطورة هذه المسارات ولن تتردد في اتباع سياسة الخطوة مقابل خطوة. علی سبيل المثال لا الحصر، قالت إن ترحيل الملف إلی مجلس الأمن سيُقابله انسحاب إيراني من معاهدة حظر الانتشار النووي، وإن صدر قرار جديد عن مجلس الأمن الدولي فإنها ستُخفض تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإن تمت مهاجمتها ستُغير عقيدتها النووية وهكذا دواليك..
واستناداً إلی ذلك كله، لن يخدم التصعيد أي طرف من الأطراف المعنية بالملف النووي ولا مفر من اعتماد خيار الواقعية السياسية في التعامل مع هذا الملف لأن ذلك وحده يستطيع أن يُنقذ المنطقة من الحرب والتوتر والتأزيم.