صحيح أن الحرب الروسية على أوكرانيا تتجه لتتحول الى أكبر عمل عسكري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، لكنها ستسجل أيضاً بداية عصر حرب اقتصادية شعواء بمخاطر جمة على الاقتصاد العالمي.
فالاجراءات العقابية المفروضة من عواصم غربية على موسكو سقطت كالصاعقة على نحو غير مسبوق تاريخياً، لتزرع الفوضى العارمة في اقتصاد روسي ناتجه 1600 مليار دولار، ومنتج مرموق للنفط والغاز والمواد الأولية الزراعية منها والصناعية.
شلُ اقتصاد بهذا الحجم له تداعيات على مستوى العالم، ولا شك أن الصين ستعيد حساباتها الخاصة بكلفة حرب خاطفة على تايوان، أو أنها سترفد روسيا بمصل مقاومة يكسر الشوكة الغربية، حتى لا يؤكل التنين الأحمر بعد الدب الأبيض.
الأولوية بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين رضوخ اوكرانيا، وجر الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الى طاولة مفاوضات يحدد هو اجندتها التأسيسية لنظام أمني عالمي جديد. في المقابل، الأولوية الغربية تركيع روسيا اقتصادياً ومنعها من استثمار أي نصر عسكري من أي حجم كان.
لم تكن روسيا تأخذ تهديد العقوبات على محمل الجد، بعدما فرض عليها إثر ضم شبه جزيرة القرم الكثير منها من دون فاعلية تذكر.
بالمقابل، يُكثّف الاميركيون والاوروبيون، ومنذ أكثر من عقدين، العقوبات الاقتصادية كخيار بديل للحروب. فالعقوبات الاميركية وحدها تطال حالياً أكثر من 10 آلاف شخص حول العالم، وتشمل 50 بلداً تمثل ربع الناتج الاقتصادي العالمي وفي كل القطاعات تقريباً. غالباً، لم تحصد أميركا النتائج الردعية أو الانتقامية المزعزعة والمقوّضة التي رجتها. أرهقت شعوباً ودولاً مثل إيران وفنزويلا من دون اسقاط شعرة من مفرق الحكام فيهما.
في المستقبل القريب سيصبح التنويع ضرورة قصوى بالنسبة للدول المناوئة للهيمنة الغربية. وبفعل العقوبات ستنفصل دول أكثر عن انظمة المدفوعات الغربية وبالتالي سيتفتت الترابط الاقتصادي العالمي اكثر. عند انتهاء الحرب الأوكرانية، سيُفكر الغرب مرتين في جدوى سلاح العقوبات اذا صمد بوتين
بالنسبة لروسيا، فان العقوبات عليها باتت الأكبر في العالم. في اعتقاد الغرب أنها قد تلوي ذراع بوتين وتشجع على انقلاب ضده. الرئيس الروسي من جهته لم يكشف كل أوراق حافة الهاوية بعد. اذا كان التهديد النووي مرعباً مضحكاً في آن، فليس مستبعداً تقطيع شرايين وأوردة امدادات النفط والغاز والمواد الأولية الاخرى بملء ارادة موسكو على قاعدة “عليي وعلى أعدائي”، ليفجع العالم بصدمة اقتصادية الأكبر من نوعها في التاريخ. فروسيا مُصدّر عالمي أول للغاز وفي المرتبة الثانية نفطياً. ولا ننسى القمح والحبوب والاسمدة والالمنيوم والنيكل والنحاس والبلاديوم والتيتانيوم. مواد ارتفعت اسعارها في اسابيع ما بين 10 و100% منذرة بتضخم يأكل رفاه الاقتصاد الغربي، وفقر ومجاعة يضربان مئات ملايين البشر.
على المديين المتوسط والطويل، سنشهد تداعيات لم يشهدها العالم من قبل مثل أن العقوبات سلاح لا فائدة ردعية له أمام أي هوس قومي مشفوع بتصميم عسكري استراتيجي. وستبحث الدول الصامدة بوجه العقوبات عن نظام مالي مستقل عن الأسواق الغربية. فالتقنيات المتطورة سريعاً ستسمح حتماً في العشرية المقبلة بخلق شبكات دفع تلتف على انظمة الدفع الغربية وتتجاوزها. فتجربة العملة الرقمية في الصين تضم الآن 261 مليون مستخدم.
يصعب جداً حالياً توظيف ترليونات الدولارات خارج الاسواق الغربية، لكن روسيا وفي خلال سنوات قليلة قبل 2022 استطاعت خفض استثماراتها في السندات الأميركية من 100 مليار دولار الى مليارين فقط، واتجهت بجزء من الاموال الى سندات آسيوية بمنأى الآن عن العقوبات. لولا التنويع جغرافياً وقطاعياً لما استطاعت موسكو تحييد نحو نصف اصولها من تحت رحمة الدول الغربية. في المستقبل القريب سيصبح التنويع ضرورة قصوى بالنسبة للدول المناوئة للهيمنة الغربية. وبفعل العقوبات ستنفصل دول أكثر عن انظمة المدفوعات الغربية وبالتالي سيتفتت الترابط الاقتصادي العالمي اكثر. عند انتهاء الحرب الأوكرانية، سيُفكر الغرب مرتين في جدوى سلاح العقوبات اذا صمد بوتين.
على صعيد آخر، تلقت حرية التبادل العالمي ضربة قاسية جداً بفعل الجهود الغربية لطرد روسيا من التجارة الدولية. تلك الحرية التي حملت لواءها الولايات المتحدة الأميركة طيلة أكثر من 30 سنة تصرخ الآن بأعلى صوتها. فالعقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا كانت سريعة ومؤلمة جداً في قطاعات حيوية مثل البترول والمصارف. والأخطر يتمثل في ما يدفع باتجاهه نواب اميركيون من الديمقراطيين والجمهوريين ناحية تعليق عضوية روسيا في منظمة التجارة العالمية، ما يشكل سابقة في تاريخ هذه المنظمة الدولية.
فروسيا التي انضمت الى المنظمة في 2011، أرادت آنذاك الخروج من أحد اشكال الحرب الباردة التي قسّمت العالم الى “بلوكات” منذ الحرب العالمية الثانية حتى انفراط عقد الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات الماضية. كان الأميركيون أول المرحبين بذلك الانضمام، الذي مهّد له لقاء قمة بين الرئيسين جورج دبليو بوش وفلاديمير بوتين في 2006. وقال بوش آنذاك: “انه اتفاق جيد للولايات المتحدة ومهم لروسيا، ومردوده ايجابي على بقية العالم”.
يقود ذلك إلى إستنتاج يُردّدَه مسؤولون في منظمة التجارة العالمية مفاده أن نظام التجارة الدولية كما نعرفه وبقواعده التي تحددها المنظمة وتحترمها الدول الأعضاء، كبيرها وصغيرها، هو في طريقه للتفسخ.
كان معلوماً أن العولمة الاقتصادية ليست حلاً سحرياً لكل الدول، ففيها رابح وخاسر، فاعل وهامشي، منتج ومستهلك. فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بدأ، عن سابق اصرار وتصميم، تقويض العولمة في 2018 عندما شنّ حرباً اقتصادية ضد الصين، واستمر فيها خلفه جو بايدن.
في هذا السياق، يقول خبراء اقتصاديون عالميون إن المستقبل هو لاتفاقات تجارية اقليمية بين دول تتقاطع مصالحها ليس تجارياً وحسب بل على الصعيد الجيوسياسي والجيوستراتيجي، ضاربين الامثال في اتفاقات صينية مع روسيا وايران ودول آسيوية خارج الهيمنة الغربية تقدر بترليونات الدولارات. في المقابل، ردّت أميركا باتفاقات مثل الذي وقع في 2020 بينها وبين وكندا والمكسيك. على هذا النحو تعاد صياغة العالم على شكل “بلوكات”.
عاشقو العولمة، في المقابل، متمسكون بالآثار الإيجابية الشاملة والهاضمة لأي آثار جانبية سلبية هامشية، برأيهم. وأبرز المنافع خفض الاسعار وتشجيع الاستهلاك والاستثمار في دينامية نمو للاقصاد العالمي ككل. فما جرّبه ترامب بتشجيع الشركات الأميركية المصنعة في الخارج للعودة الى “الديار”، تبين انه غير مجد بعدما انتج تشوهاً في التنافسية وتضخماً في الاسعار. واجه ترامب معارضة من دعاة حرية التجارة الاميركيين المؤمنين بأن العولمة مفيدة للاقتصاد الاميركي اولاً. فتطور وسائل الاتصالات والمواصلات حول العالم بات يسمح بالانتاج التنافسي أينما كان.
وبالأرقام، وبرغم الآثار الايجابية للعولمة الاقتصادية والتبادل التجاري الحر، فان العالم يبتعد عنها شيئاً فشيئاً منذ 2008، السنة التي سجلت الذروة على هذا الصعيد بتحقيق العولمة 31% من الثروات العالمية مقابل 26% في 2020.
عاجلاً أم آجلاً، المواجهة صينية أميركية بامتياز. وكل ما نشهده الآن عبارة عن “بروفا” لدفن العولمة ونبش مانيفستو الحروب الضروس
كثير من الدول رفعت معدلات الجمارك على الاستيراد. فمنذ 2010 ارتفع التبادل التجاري المعرض للرسوم الجمركية بشكل “مقلق جداً” وفقاً لمنظمة التجارة العالمية. فالمنظمة التي ولدت في 1995 في غمرة موجة التفاؤل التي اعقبت الحرب الباردة وتحت شعار تحرير التبادل وما له (ضمناً) من منافع ديمقراطية بتصدير القيم الغربية أيضاً، تتعرض اهدافها منذ أزمة 2008 العالمية الى نكسات. ظهر جلياً ان هناك من يعادي العولمة، ثم أتت الحرب التجارية الاميركية ـ الصينية وتلتها جائحة كورونا.. لتشكيل عوامل دافعة لاعادة التفكير بفلسفة التجارة الحرة من أساسها.
وجاءت الحرب الروسية ـ الاوكرانية لكي تحسم الأمر: حرية التبادل والعولمة الاقتصادية لا تجلبان السلام الذي تريده اميركا على قياس مفهومها للعالم. أميركا، نفسها، تُراجع ما كانت تدعو إليه منذ عقود. بدليل وضع الصين على رأس قائمة التحديات الاميركية بالنسبة لبايدن ليس لأنها قوة عسكرية داهمة فقط بل قوة اقتصادية ساحقة تهدد عرش أميركا. جاء بايدن ليناقض الرؤية الأميركية للعولمة الاقتصادية الحرة المطلوب التضحية بها لمصلحة “الجيوأكونومي” بما هي ساحة حرب مصالح بين القوى العظمى.
الطامة الكبرى بالنسبة للاميركيين حالياً هي لملمة نتائج انضمام الصين الى منظمة التجارة العالمية في 2001. فالاقتصاد الروسي معزول ومتواضع نسبياً ولا يشكل أكثر من عشر الاقتصاد الصيني. اما بكين فتعتمد على نظام اقتصادي موجهٍ دولتيٍ تدخليٍ بامتياز عكس النظام الاقتصادي الاميركي. المواجهة بين الطرفين آتية لا محالة سواء على فرس اقتصادي او حصان جيوسياسي واستراتيجي.
ويتوقع اقتصاديون غربيون ان من بين نتائج الحرب الروسية الاوكرانية عودة العالم الى “بلوكات” معزولة نسبيا عن بعضها البعض. فاذا احجمت اميركا او اوروبا عن شراء النفط الروسي فان دولاً أخرى ستشتريه. والعقوبات التي فرضت على شركات تكنولوجية صينية متهمة بالتجسس الصناعي او سرقة حقوق الملكية الفكرية الغربية لم يمنع بكين من تثبيت موعد 2025 لتصبح القوة التكنولوجية المناوئة الأولى للغرب بقوة.
فكرة التعاون لنتبادل تجاريا بشكل حر حتى لو كان ذلك مع منافسين باتت الآن من الماضي. فالناظر الى نسبة صادرات السلع والخدمات الى الناتج الاقتصادي العالمي وانطلاقا من 10% في 1971 يرى الصعود المتواصل للنسبة حتى 2008 لتشكل 30% ثم بدأت بالهبوط منذ تلك السنة الى نحو 25% والاتجاه نزولي. هذا تعلمه الصين جيداً. عاجلاً أم آجلاً، المواجهة صينية أميركية بامتياز. وكل ما نشهده الآن عبارة عن “بروفا” لدفن العولمة ونبش مانيفستو الحروب الضروس!