في محاولة تلمس بعض الإجابات كثرت التحاليل المستندة إلى نظرية المؤامرة بشأن تخلي روسيا وإيران عن الأسد كما كثرت الأقاويل عن أسباب الانهيار، ولكن للإجابة بموضوعية لا بد بداية من قراءة الوضع السوري الداخلي عشية الانهيار، وهنا لا داعي للكثير من التمحيص للتوصل إلى استنتاج أولي بأن النظام في سوريا قد هرم وأنهكته الحرب التي خاضها منذ العام 2011، فضلاً عن الأثر الكبير للعقوبات الدولية التي أنهكت كل الشعب السوري، بما في ذلك الجيش السوري، لا بل جعلت حياة السوريين جحيماً بكل معنى الكلمة.
وليس خافياً أنه في الحرب السورية كان لمعظم دول العالم دور إما بارسال السلاح أو المسلحين أو حتى بارسال جيوشها إلى سوريا وبات النظام السوري اللاعب الأضعف على مسرحه الخاص في ظل نفوذ أمريكي وروسي وإيراني وتركي وسعودي وقطري واماراتي وحتى “إسرائيلي”؛ أما لجهة حلفاء النظام الذين ساهموا في الدفاع عنه على مدى الأعوام الثلاثة عشر المنصرمة، فهم أيضاً وصلوا عشية سقوط النظام إلى حالة من الانهاك العسكري والاقتصادي، فروسيا التي وضعت ثقلها العسكري خلف الرئيس بشار الأسد في العام 2015 هي غير روسيا اليوم وهي تخوض منذ ما يقارب الثلاث سنوات حرباً شرسة في أوكرانيا ـ امتدت مؤخراً إلى أراضيها ـ ليس بمواجهة تلك الدولة الجارة فحسب بل أيضاً في مواجهة الولايات المتحدة ودول حلف “الناتو” الذين ضخّوا مئات مليارات الدولارات لإبقاء الحرب مستعرة واستنزاف روسيا بشرياً واقتصادياً، وهكذا باتت مسألة مواجهة الخطر الأوكراني (الناتوي) أولوية كونها تمس أمن روسيا القومي.
يسري ذلك على إيران التي أنهكها الدعم العسكري والمالي لسوريا على مدى سنوات الحرب المنصرمة والذي يُقدّر بحوالي الثلاثين مليار دولار ناهيك عن الدعم المالي والعسكري للحلفاء الذين شاركوا في الدفاع عن نظام الأسد خلال الفترة نفسها بما لا يقل عن عشرين مليار دولار، وهي تواجه أساساً أزمة اقتصادية داخلية جراء الحصار الاقتصادي الأمريكي والغربي عليها، كما أنها تبعد جغرافياً عن سوريا حوالي الألف كيلومتر ومن الصعب عليها إرسال عسكرها إليها حتى لو كانت ترغب بذلك.
ميدانياً، جاء هجوم “هيئة تحرير الشام” (تضم 26 مجموعة مسلحة) على مواقع النظام في سوريا بعد ساعات قليلة من وقف إطلاق النار في لبنان بعد حرب دامت أكثر من ستين يوماً خاضها حزب الله بصمود بري أسطوري في مواجهة الجيش “الإسرائيلي” ومن خلفه الأمريكيين ومعظم دول الغرب بكل ما لديهم من قدرات تكنولوجية وعسكرية، خسر فيها الحزب معظم قيادته العسكرية من الصفين الأول والثاني وبعض الصف الثالث إضافة إلى خسارته قائده التاريخي السيد حسن نصرالله والخليفة الذي كان مرتقباً له السيد هاشم صفي الدين والخليفة الذي كان أيضاً مرتقباً لصفي الدين الشيخ نبيل قاووق، وبالتالي كان يصعب على حزب الله أن يهب لنجدة حليفه الأسد في ظل هكذا أوضاع.. زدْ على ذلك أن الأسد نفسه كان قد طلب من حزب الله سحب بعض قواته من بعض المحافظات السورية، ولا سيما مدينة حلب.
من هم الرابحون والخاسرون؟
يُمكن اعتبار الشعب السوري أول الرابحين إذا كانت إرادة الأغلبية منه تصب في خانة تغيير النظام. إلا أن الصورة الداخلية ما تزال ضبابية، وإن يكن البعض يعتبر أن أي بديل للنظام هو أفضل لسوريا من الذي كان موجوداً، ولكن هذا الاعتبار ربما يحتاج إلى إعادة نظر إذا لامست الأمور حد الفوضى والاقتتال الداخلي، كما أن سوريا الدولة حتى الآن هي في خانة الخاسرين لأن أول غيث التغيير الذي حصل هو خسارة سوريا لما يقارب 300 كلم من أراضيها بسبب قرار “إسرائيل” الغاء اتفاقية فض الإشتباك الموقعة عام 1974 واندفاع جيشها داخل الأراضي السورية، كما خسرت سوريا معظم قدراتها العسكرية والحربية نتيجة الغارات التي شنّها الطيران الحربي عليها ودمّر خلالها قرابة 90 في المئة من هذه القدرات بحسب بيانات الجيش “الإسرائيلي” وحوّل ما تبقى من الجيش السوري إلى ما يشبه الشرطة البلدية..
وفقاً لما سبق، تعتبر “إسرائيل” في طليعة الرابحين لتليها بالطبع تركيا، الراعي الأول للمعارضين للنظام السوري منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011، وهي تعتبر الراعي الفعلي والداعم الأساسي عسكرياً ولوجستياً لـ”هيئة تحرير الشام” خلال هجومها الاخير، وهي اليوم تدعو للحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها لأنها تعتبر أن سوريا اليوم باتت جزءاً من مشروع العثمانية الجديدة الذي يتبناه الرئيس رجب طيب أرودغان. أما عن الرابحين عربياً، فتعتبر إمارة قطر الرابح العربي الوحيد إذ أنها الدولة العربية الوحيدة التي لم تُطبّع علاقتها بالرئيس الأسد في الأعوام القليلة الماضية، لا بل كانت شريكة تركيا في مواصلة دعم المجموعات المسلحة المعارضة له.
كما تعتبر الولايات المتحدة من ضمن الرابحين، فحليفتها وعضو حلف “الناتو” تركيا وحليفتها وولدها المدلل “إسرائيل” هما أول الرابحين، لكن ربح تركيا تشوبه بعض الأخطار بسبب التعارض الواضح بين المشروع الإسرائيلي والمشروع التركي في سوريا ناهيك عن كيفية تعاطي تركيا مع ملف الأكراد في سوريا الذين يتمتعون بحماية أمريكية.
أما عن الخاسرين، فإن إيران تتصدر اللائحة، إذ أن خسارتها ليس فقط لأحد أطراف ما كان يوصف بـ”محور المقاومة”، أي للنظام السوري الذي كان حليفاً لها منذ نشأة الجمهورية الاسلامية عام 1979 وساندها في حربها مع العراق كما ساند حلفاءها في العراق ولبنان، بل في قطع الشريان الحيوي للتواصل بينها وبين حليفها حزب الله في لبنان وحلفائها في فلسطين المحتلة. ومن شأن ذلك أن يحد من قدرات إيران على المناورة الإقليمية التي كانت تتمتع بها في إطار المفاوضات بشأن ملفها النووي.
وتعتبر روسيا من بين الخاسرين أيضاً، وكل ما يقال عن صفقة عقدتها مع تركيا أو الولايات المتحدة أو حتى مع “هيئة تحرير الشام” هو مجرد أوهام. فما حصل هو أن سوريا الجديدة خرجت من الفلك الروسي بالقوة وليس بالتسوية وعاجلاً أم آجلاً ستُخلي قواعدها العسكرية البحرية في كل من طرطوس واللاذقية، وبذلك تخسر الميناء الوحيد الذي ملكته على مدى أكثر من أربعة عقود على البحر الأبيض المتوسط وإذا لم تتوصل إلى اتفاق مع اللواء الليبي خليفة حفتر لإعادة نشر سفنها الحربية الموجودة في سوريا اليوم في ليبيا فإنها ستخرج كلياً من منطقة البحر الأبيض المتوسط.
ومن ضمن الخاسرين أيضاً هناك أكراد سوريا الذين تمتعوا على مدى عمر نظام البعث في سوريا بما يشبه الحكم الذاتي، أما اليوم ومع النفوذ التركي في التركيبة السورية لا شك فإن مقومات هذا النوع من العلاقة مع الأكراد لن يستمر.
وبين الرابحين والخاسرين يقف كل من لبنان والأردن في لائحة الانتظار لمعرفة موقع كل منهما، فلبنان تاريخياً يتأثر بما يحصل في سوريا وعندما لا تكون سوريا بخير لا يمكن ان يكون لبنان بخير. وبما أن المرحلة الراهنة لم تتبلور فيها الأوضاع الداخلية السورية، فإن لبنان لا يعرف ماذا ينتظره من تطورات الوضع السوري الداخلي. أما الأردن فبالامكان القول إنه دخل في عين العاصفة، فمع سقوط سوريا والضربات القاسية التي تلقتها المقاومة في كل من فلسطين ولبنان فان شهية رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو لتحقيق الحلم التوراتي المتمثل في “إسرائيل الكبرى” ستكون مفتوحة في ظل ضوء أخضر أمريكي غربي وبالتالي فان مخاطر قيام نتنياهو بعملية “ترانسفير” واسعة لسكان الضفة الغربية إلى الاردن باتت اليوم احتمالاً قائماً بجدية، بخاصة وأن آخر تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب تُشجّع على ذلك إذ قال سابقاً إنه يرى خريطة “إسرائيل” صغيرة جداً ولا بد من توسيعها كما قال إنه ليس بالضرورة أن يكون حل الدولتين هو الحل الوحيد للقضية الفلسطينية.
إلى أين تتجه الأمور في سوريا؟
إن الصمت المريب الذي مارسه قادة “هيئة تحرير الشام” حيال الاعتداءات “الإسرائيلية” الوحشية على بلدهم وصمتهم حيال احتلال “إسرائيل” لمناطق واسعة من جنوب بلادهم والتشكيلة التي ظهرت فيها الحكومة المؤقتة برئاسة محمد البشير، كل هذا لا ينبىء بالخير، فلا شيء يُبرّر لهذه الهيئة صمتها عن الإعتداءات “الإسرائيلية” على سيادة سوريا، كما أن تشكيل حكومة من لون واحد لا يراعي الموزاييك الديموغرافي لسوريا بما فيه من أقليات عرقية ودينية قد يزرع بزور فتنة داخلية لا أحد يعرف كيف ستُعبّر عن نفسها، ومع ذلك يجب عدم التسرع في التشاؤم واعطاء الفرصة التي أعطتها هذه الحكومة لنفسها حتى مارس/آذار المقبل لاظهار الشكل الذي سيكون عليه الحكم.