“بناء الدّولة” أم “التّحرّر الوطنيّ” أوّلاً.. معضلةٌ بلا حل!

على هامش أحد المؤتمرات القوميّة العربيّة التي عُقدت السّنة الماضية في بيروت، لَفتَت انتباهي مُقابلةٌ اعلاميّةٌ أُجريَت مع كادرٍ مُميَّز من الكوادر القوميّة العربيّة النّاصريّة الميول، وكان قادماً من مصر الحبيبة يومَها، للمشاركة في هذه الفعالية التي تُعقد دورياً في العاصمة اللبنانية.

أما ما لفت انتباهي في خطاب هذا الشّاب، النّاشط والنّشيط حقيقةً، فهو الجانب الآتي بالتّحديد: علينا أن ننتبه، فقد أوهمتنا القوى الاستعماريّة، باختصار، أنّه ينبغي التّركيز في عملنا وفي نضالنا، حاليّاً وبلا انتظار، على بِناء الدّول الدّيموقراطيّة ونَيل الحُرّيّات الفرديّة ومُختلف أنواع الحرّيّات السّياسيّة والاقتصاديّة وغيرها..

“الأصحّ”، بالنّسبة إلى كلّ شعب هو، بحسب هذا الخطاب القومي: أن “يتحرّر” أوّلاً.. أي أن يتحرّر من “الاستعمار” بكلّ أشكاله، وأن ينجح في نضال “التّحرّر الوطنيّ والقوميّ” بشكل عامّ. حسب هذا النّاشط النّاصريّ إذن: المُطالَبة بالحرّيّات السّياسيّة والاقتصاديّة وغيرها – الفرديّة منها خصوصاً – والمطالبة بالدّول الدّيموقراطيّة، والمطالبة بدُول “المُواطَنة” الحديثة بشكل عامّ، قبل تحقيق التّحرّر القوميّ والوطنيّ.. هي بمثابة الخطأ الجسيم، أو الوهم المُبين، الذي يعمل العدوّ الصّهيونيّ وحلفاؤه المستعمرون على ايقاعنا فيه.

بحسب هذه النّظرة، بالتّالي: المُقاومة أوّلاً. التّحرّر الوطنيّ أوّلاً. إرساء الهويّة القوميّة أوّلاً. تحرير الأرض (الوطنيّة والعربيّة) أوّلاً. تحرير الجيوش (الوطنيّة والعربيّة) أوّلاً.. ثمّ، يأتي السّعي إلى بناء “الدّيموقراطيّات” الحديثة وتطبيق مفهوم “دولة المواطنة” الحديث وما إلى ذلك من مفاهيم وقضايا.

***

للوهلة الأولى، بدا لي هذا الكلام صادماً، أقلّه في الشّكل، إلى حدّ بعيد. ولكنّ الحقيقة هي أنّ هذه هي قناعة نخب وقيادات وأوساط واسعة من قوميّينا العرب، ومن قوميّينا السّوريّين ربّما (وغيرهم)، ومن يساريّينا المُقاومِين، ومن حركاتنا الاسلاميّة “الوطنيّة” بمختلف مدارسها، ومن حركات مقاومتنا في المنطقة وضمن البلاد العربيّة والاسلاميّة.

لم أقل جميعهم: قلت أوساط واسعة منهم، إن لم تكن الأوسع حتّى الآن.. ظاهراً و/أو باطناً.

وهذا ما يُفسّر ظواهر عايشناها عن قرب في بلادنا العربيّة والاسلاميّة، في الماضي ومؤخّراً. منها مثلاً: ظاهرة نظامَي البعث العراقيّ والبعث السّوريّ، برغم اختلاف التّجربَتَين من زوايا متعدّدة. تصوير القصّة على أنّ هناك “شياطين” كانت تحكم العراق وسوريا وغيرهما.. لا يعكس المضمون بشكل كلّيّ وأمين. هناك من كان يعتقد، ولا يزال، أنّ السّعيَ إلى بناء الدّول المدنيّة الدّيموقراطيّة الحديثة بكامل جوانبها.. بلا انجاز التّحرّر من نير الاحتلال والاستعمار أوّلاً.. هو مُجرّد وهم في وهم، وسراب في سراب.

ليست القصّة قصّة أنانيّات فرديّة وتفرّد شخصيّ وطغيان للطّغيان، وما إلى ذلك، فقط: بل هناك قناعة مفاهيميّة-نظريّة وراء كثير من تلك الظّواهر العجيبة التي عرفناها وربّما لا نزال نعايشها!

قد يقول لك هؤلاء، مع التّبسيط والاختصار: أيّ “دولة” ستبني.. وأنت رهين للقوى الاستعماريّة؟ بِلُغة الحدث الرّاهن ربّما، قد يقال أيضاً على سبيل المثال: أيّ “دولة” ستبني تحت الهَيمنة الأميركيّة؟ أيّ مؤسّسات؟ أيّ جيش وطنيّ؟ هل ستأذن لك أميركا ببناء هذه المشاريع كلّها بشكل جدّيّ.. خصوصاً إذا كنت على حدود فلسطين المحتلّة، أو فوق آبار من النّفط والغاز وغيرهما من الثّروات؟ هل تُمازحني يا رجل؟

حسب هذه النّظرة إذن: كفى اضاعةً للوقت وللطّاقة وللحبر وللورق.. فلْنتحرَّر أوّلاً، من خلال التّصدّي للاستعمار، ومن خلال المقاومة، ثمّ لِنَبنِ “الدّولة” و”المواطنة” و”الدّيموقراطيّة” بشكل حقيقيّ على أرض الواقع!

***

أعتقد أنّ الاشكاليّة هذه معروفة طبعاً، ولكنّنا ننساها أحياناً، أو نتناساها في أحيانٍ كثيرة، بشكل واعٍ أو لا-واع. لذلك، كان خطاب هذا الشّابّ النّاصريّ مُهمّاً بالنّسبة إليّ في حينها: لكي أتذكّر تلك المعضلة التي لم نخرج منها حتّى الآن، في الأعمّ الأغلب، بحسب اعتقادي العميق.

لا؛ لا أعتقد أنّنا خرجنا من هذه المعضلة الجوهريّة أبداً، في مختلف الأقاليم العربيّة والإسلاميّة، وفي المنطقة، وفي لبنان. لم نحلّ هذه الاشكاليّة، أقلّه في الواقع الملموس.

لنقلْ أيضاً: لم نصلْ إلى تسويات داخليّة بيننا، تكون مقبولة وعمليّة، حول هذه المعضلة. وهي المعضلة الكامنة بالمناسبة، وفي رأيي، وراء الكثير من “خناقاتنا” الحاليّة ضمن هذه الأمصار والأقطار والبلاد المذكورة:

أوّلاً؛ هل من الواقعيّ حقّاً السّعي إلى بناء “دول ديموقراطيّة ومُوَاطِنيّة” عصريّة، وحقيقيّة.. في ظلّ عدم تحقّق التّحرّر الوطنيّ والقوميّ؟

ثانياً؛ هل نبني “دولاً” في ظلّ استحكام الاستعمار الأميركيّ وغيره.. أو في ظلّ الدّبّابة الاسرائيليّة وغيرها.. ونصدّق بأنّها ستكون حُرّة وعادلة وغير فاسدة؟ هل نجمع CVs مشاريع رجال دولة.. ونحن تحت هيمنة قوى الاستعمار، ونحن تحت الاحتلال أو تحت تهديد الاحتلال (إلخ.) وفساده؟ لاحظ حساسيّة وجوهريّة هذه الأسئلة – معاً – بالنّسبة إلى واقعنا الرّاهن.. وفي بلاد وأمثلة كثيرة من حولنا.

من هنا، عزيزي القارئ، يُمكنك أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر: أن تُلاحظَ معي كذلك أنّ الانقسام في لبنان منذ عام 2005 تقريباً.. ليس فارغاً كلّيّاً من المضمون المفاهيميّ، برغم نجاح مختلف الأطراف في تمويه خطابها السّياسيّ، لأسباب مفهومة عند كلّ طرف.. ولا داعيَ للولوج في التّخاطب السّياسيّ الدّاخليّ اللّبنانيّ عند هذا الحدّ.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": تسوية لتيران وصنافير تضمن حرية الملاحة الإسرائيلية!

***

باختصار أيضاً، أرى أنّ الحدّ الأدنى من الموضوعيّة يُبيّن أنّ هذه القضيّة-المعضلة:

أوّلاً؛ هي أساسيّة بل وجوهريّة جدّاً في ما يعني الحوار السّياسيّ والنّصّ السّياسيّ حاليّاً، في لبنان وفي الإقليم وضمن جميع بلادنا العربيّة والاسلاميّة تقريباً؛

ثانياً؛ هي لم تُحلّ بعدُ بشكل واضح ومُقنع، وخصوصاً بشكل عمليّ، وبالتّحديد: لدى أغلب قياداتنا وكوادرنا ونخبنا، لا سيّما منها تلك التي تؤمن بالحدّ الأدنى من ضرورة العمل على تحقيق “التحرّر الوطنيّ” /و/ بناء “الدّولة” (هذا /و/ ذاك إذن)؛

ثالثاً؛ هي ليست سهلة الحلّ أبداً، ولا هي بسيطة. فالطّرفان “المتنازعان”، إن جاز التّعبير، لديهما من الحجج القويّة ما يجعل موقف كلّ واحد منهما قويّاً ومتماسكاً نسبيّاً.. إلى اليوم. نعم.. إلى اليوم.

فكيف نحلّ هذه المعضلة حقيقةً؟

***

لا ريبَ أنّ الإجابة على كلّ هذه الأسئلة يلزمها.. أكثر بكثير من هذا المقال.

ولكن، لنعترف أنّ نظرة الشّابّ المصري القوميّ العربيّ النّاصريّ ذاك، والتي بدأنا بها هذه الورقة.. واقعيّة إلى حدّ بعيد، ولو صدم ذلك بعض المفاهيم الرّائجة اليوم خصوصاً بين شبابنا.

إذ ليس من الواقعيّ بتاتاً تصديق فكرة: أنّ أوطاناً وكياناتٍ تتحكّم بمؤسّساتها أيادي القوى الاستعماريّة، الاستغلاليّة والفاسدة على مستويات متعدّدة، وذات العقليّة الاحتلاليّة في أحيان كثيرة، ولو بشكل مُبطّن في كلّ هذه الجوانب.. ستُفضي إلى شيء مُطمئِنٍ في ما يخصّ احترام سيادة الأوطان، واستقلال ارادتها، وتحقيق قيمها السّامية بالإضافة إلى ما ذكرناه حول التّطبيق الحقيقيّ لمفاهيم الحرّيّة والمواطَنة والدّيموقراطيّة والعدل وما إلى ذلك. كلّ ما سبق: بشكل جدّيّ إذن، وبطريقة صادقة وبعيدة الأمد.

غير أنّي، مع ذلك، ألفت انتباه القارئ العزيز إلى ما يلي من نقاط نقديّة الطّابع وبإلحاح شديد:

  • يُمكن العمل، ولو نسبيّاً وتدريجيّاً، وفي بعض الحالات وضمن بعض الأقطار: على ما سمّيناه تبسيطاً بجانب “بناء الدّولة”.. حيث يتواجد نوع من “المشاركة” التّنافسيّة بين الاستعمار وحلفائه من جهة، وبين قوى المقاومة والتّحرّر الوطنيّ وحلفائها من جهة ثانية. قد يكون لبنان مثالاً على هذا النّموذج إلى حدّ بعيد، إذ يُمكن تجرّع “مشروع الدّولة” بالجرعات المُدَوْزَنة، من حين إلى آخر، دون التّوهّم بأنّنا سنبني نموذجاً سويديّاً أو سويسريّاً في بضع سنين (كما يحدث الآن إلى حدّ بعيد وللأسف).
  • بشكل أعمّ، علينا أن نعترف كذلك بأنّ النّظرة “المُقاوِمة أو التَّحرُّريّة أو المُمانِعة” إن شئت، بالتّحديد كما وصفناها آنفاً: قد تعرّضت منذ فترة طويلة نسبيّاً لضربة مفاهيميَّة وتاريخيّة عميقة معاً، إن صحّ التّعبير. وهذا ما يستلزم العمل على نقدها وتطويرها جدّيّاً.. ولو على المستوى الخطابيّ والسّياسيّ-العمليّ في المدى القريب قبل فوات الأوان. إنّها، في نظري، ضربةٌ ذات وجهَين واقعاً:
  • أمّا “الوجه الأوّل”: فهو متعلّقٌ بانتشار العَولمة بمختلف تجلّياتها، وبشكل متسارع، لا سيّما منذ ما بعد فترة حرب العام ١٩٧٣.. ممّا أدخل مفاهيم متعدّدة ومتنوّعة، طوعاً وقسراً، إلى بيوتنا وإلى أذهاننا وإلى مجتمعاتنا.. وداخل لا-وعينا! تسبّبت ظاهرة العولمة هذه، باختصار، بتغيّرات جذريّة في طريقة تفكير الفرد والجماعة عندنا، ممّا يوصلنا إلى..
  • .. “الوجه الثّاني” طبعاً: وقد يكون عمود أعمدة هذه المفاهيم المذكورة، وركنها الرّكين، ألا وهو مفهوم “الفرديّة” أو “الشّعور الفرديّ”. وقد تحدّثنا حوله وفصّلنا الحديث في مقال سابق من جزئين على موقع 180Post، ورأينا كيف أنّ اكتشاف هذا المفهوم، وانتشار هذه الظّاهرة.. جعلا من الصّعب جدّاً على الجماعة وقيادتها: الطّلب من الفرد أن يمحوَ أو أن يُحيّد أو أن يَقمع “شعوره الفرديّ”.. تجاه ما يُقدَّم له على أنّه “مصلحة الجماعة”. لم تعد هذه الأخيرة كافيةً، في أحيان كثيرة جدّاً، لإقناع الفرد بعدد كبير من التّضحيات التي كان يقبل بها – عموماً وفي المبدأ – على المستوى الفرديّ.

إلى حدّ بعيد، وباختصار شديد؛ تقدّمت وجهة نظر “الفرد أوّلاً” على مستويات عديدة ومتنوّعة وعميقة، ممّا قلب الموازين من زوايا جوهريّة في ما يعني نقاشنا.

لا شكّ في أنّ ظاهرة الشّعور الفرديّ تلك، بالإضافة إلى المفاهيم والظّواهر الأخرى التي أنزلَتها العولمة انزالاً داخل مجتمعاتنا وعقولنا.. لا شكّ في أنّها تفرض علينا إعادة النّظر في فلسفة “بناء الدّولة” ضمن أوطان كأوطاننا. وللحديث تتمّة في اللّاحق من القَول والمَقال إن شاء الله تعالى.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  البرهان وحمدوك.. لاعبان على حبل من التوازنات الدقيقة