زيلينسكي يُطرَد من مسرح البيت الأبيض.. ما هو موّال ترامب؟

هل نتجه نحو نظام عالمي جديد أكثر شراسة من تفرد الرأسمالية الأمريكية بقيادته منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي في العام 1991، حتى يومنا هذا؟

يأتي طرح السؤال في ضوء رصد الأيام الأربعين الأولى من ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي تميّزت بسلسلة مُتراكمة من المواقف صدمت حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية قبل أعدائها؛ من اقتراحه تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى كل من الأردن ومصر والسعودية إلى اهانته الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وطرده من البيت الأبيض بطريقة مشينة مروراً بدعوته حلفائه في حلف شمال الاطلسي (الناتو) إلى رفع موازنة الدفاع لدولهم إلى خمسة في المئة من الناتج القومي لكل دولة، إضافة إلى اعلانه ضرورة ضم كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وجعل قناة بنما وجزيرة غرينلاند الدانمركية تحت السيادة الأمريكية.

سؤال النظام العالمي الجديد ليس من السهل الإجابة عليه، لكن المكتوب يُقرأ من عنوانه، كما يُقال، وكل شعارات ما يسمى بالعالم الحر من ديموقراطية وحقوق إنسان وحق للشعوب بتقرير مصيرها إلى حقوق الطفل والمرأة إلخ.. لم تكن سوى شعارات زائفة في هذا العالم المسمى حراً في مسيرة إحكام الرأسمالية قبضتها على مصير الكوكب وتحويل شعوبه إلى عبيد تماماً كما كان الحال في زمن الامبراطورية الرومانية.

وتقتضي الواقعية السياسية أن تبدأ مقاربة مواقف ترامب من قطاع غزة، فاقتراح الرئيس الأمريكي أثار أول ما أثار حلفاء واشنطن العرب من مصر والأردن إلى السعودية ودول الخليج، فهذا الاقتراح يُشير أولاً إلى أن الإدارة الأمريكية لا تنظر إلى موضوع قطاع غزة كجزء من القضية الفلسطينية بما هي قضية عادلة لشعب شرد من أرضه وارتكبت بحقه شتى أنواع حروب الإبادة، بل هي مجرد صفقة تجارية حيث استثمرت واشنطن قرابة الثلاثين مليار دولار في الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على القطاع والضفة الغربية لتحقيق هذا الحجم الهائل من الدمار، وهي اليوم تريد حصد نتائج هذا الاستثمار عبر تهجير سكان القطاع وانشاء منتجع سياحي أمريكي ضخم يكون درة الشرق الأوسط، كما قال ترامب. وحتى الضفة الغربية، قد يعلن ترامب خلال الأسابيع القليلة المقبلة موافقته على ضمها رسمياً إلى دولة “إسرائيل” وبالتالي انهاء القضية الفلسطينية بالكامل بعد صراع دام أكثر من مئة عام.

في هذا السياق، بادر ترامب إلى استدعاء حلفائه في المنطقة الواحد تلو الآخر لاجبارهم على القبول، فبدأ بالملك الأردني عبدالله الثاني ومن ثم وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان ليليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي حاول التملص من الزيارة عبر طلبه تأجيلها إلى موعد لاحق. وفي كل ذلك تحقير لقادة المنطقة الذين يتعامل معهم ترامب ومع شعوبهم على أنهم مجرد أدوات لتحقيق صفقة “البزنس” التي يُريدها وكل ما عدا ذلك هو مجرد كلام فارغ.

إن سلوك ترامب وتصريحاته يشيران إلى أمرٍ وحيدٍ على صعيد العلاقات بين الدول والشعوب ألا وهو عقلية “البزنس” والصفقات بمعزل عن أي أمر آخر، وهذا هو تماماً جوهر النظام الرأسمالي الذي تلطى على مدى عقود من الانقسام بين معسكرين رأسمالي واشتراكي خلف شعارات برّاقة لم يُمارسها يوماً سوى من باب المنافسة مع خصمه الاشتراكي

أما في أوكرانيا، فقد كان ترامب أكثر شراسة في محاولة فرض رأيه على زيلينسكي، إذ أنه يريد أن يُوافق حليفه على اتفاق سلام يُعطي روسيا الأراضي التي غنمتها في حربها مع أوكرانيا المستمرة منذ ثلاثة أعوام، وهي تساوي أكثر من عشرين في المئة من إجمالي مساحة أوكرانيا، وأن يوافق على معاهدة اقتصادية تعطي الولايات المتحدة حق استخراج المعادن الثمنية على أراضيها بعد حسم كلفة الاستخراج لايفاء كل ما دفعته واشنطن من مساعدات عسكرية وقروض على مدى سنوات الحرب والتي يقول ترامب إنها تبلغ 500 مليار دولار لكنه يرضى بأن يستوفي منها فقط 375 مليار دولار، لكن زيلينسكي رأى في طلب ترامب استسلاماً غير مشروط لبلاده أمام الروس فطلب مقابل ذلك أن يُستعاض عن اتفاق السلام باتفاق لوقف اطلاق النار ونشر قوات دولية بينها قوات أمريكية وأن يوافق ترامب على دخول أوكرانيا إلى حلف “الناتو” والإتحاد الأوروبي مقابل حصول أمريكا على حق استخراج المعادن الثمينة وألا يكون المبلغ الذي ستستوفيه هو الذي ذكره ترامب بل أن يخضع هذا الأمر إلى مزيد من المفاوضات.

باختصار؛ باتت حرب أوكرانيا بالنسبة إلى ترامب ليست مسألة سيادة دولة على أراضيها ولا قضية حق شعب في تقرير مصيره، كما زعمت الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن في عهد جو بايدن. إنّها بالنسبة إلى ترامب مسألة “بزنس”؛ فقد دفعت الولايات المتحدة مبلغاً من المال في هذه الحرب التي لم تعطِ النتيجة المرجوة منها وبات استمرارها استنزافاً لقدرات ليس أوكرانيا وحدها، التي لا يهتم ترامب لأمرها كثيراً، أو قدرات حلفائها الغربيين، بل بالأساس لقدرات أمريكا واذا ما استمرت الحرب فإن أوكرانيا ستكون عاجزة عن إيفاء واشنطن ديونها، لذلك فإن ترامب يرى أن أوان الصفقة قد آن ليس حباً بالرئيس فلاديمير بوتين بل تمسكاً بأوكرانيا كمورد مالي يتجه إلى النضوب لا أكثر ولا أقل.

إقرأ على موقع 180  سلاح اردوغان في الحرب السورية... "أنا أفضل الموجود"

وفي موضوع حلف “الناتو”، ثمة استحالة لدى دول الحلف في تلبية طلب ترامب برفع كل منها موازنة الدفاع لديها إلى خمسة في المئة من الناتج القومي لأن من شأن ذلك زعزعة اقتصاديات هذه الدول التي تعاني راهناً من أزمات اقتصادية، في الوقت الذي لا تتجازوز فيه موازنة الدفاع لدى أغلبها نحو اثنين في المئة، وقد وصلت الضرائب لدى معظم هذه الدول إلى مستوى غير مسبوق متجاوزة الأربعين في المئة من الدخل ناهيك عن ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وتفاقم أزمة النازحين من بلادهم (أوكرانيا والعديد من دول الشرق الأوسط).

وينظر ترامب إلى وجود الجنود الأمريكيين في قواعد الجيش الأمريكي في دول حلف “الناتو” بوصفهم “مرتزقة” تدفع تكاليف وجودهم الإدارة الأمريكية من أموال دافعي الضرائب حماية لدول تملك جيوشاً هي الأولى بالقيام بهذه المهمة؛ فإما أن تدفع هذه الدول كلفة هؤلاء المرتزقة وإما تدافع هي عن نفسها، وهذه هي قاعدة “البزنس” التي يعمل عليها ترامب.

أما ما يتعلق بضم كندا وقناة بنما وجزيرة غرينلاند، فقد أعرب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن رفضه لذلك، لكنه قال إن بلاده لن تخوض حرب مع أمريكا على خلفية هذا الكلام. أما بنما، فإنها دولة صغيرة في أمريكا الوسطى وفيها قناة مائية تربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادىء وسبق للولايات المتحدة أن غزتها في العام 1989 واعتقلت رئيسها مانويل نورييغا ونقلته إلى ميامي حيث حُوكم بتهمة الإتجار بالمخدرات وحُكم عليه بالسجن 40 عاماً قضى منها 17 عاماً في السجن وخرج بعد تخفيض العقوبة بسبب حسن السلوك. وفي موضوع جزيرة غرينلاند، وبرغم بعد المسافة بين الولايات المتحدة وهذه الجزيرة، بامكان أمريكا غزوها بسهولة كون الدانمارك لا تملك قدرة الدفاع عنها، والمجتمع الدولي لن يحرك ساكناً حيال اي سلوك عسكري أمريكي وثمة سابقة حصلت في العام 1982 عندما قامت بريطانيا بارسال بحريتها لشن حرب على الأرجنتين واخضاع جزر فوكلاند في أقصى جنوب المحيط الأطلسي على بعد آلاف الأميال من الشواطىء البريطانية.

إن سلوك ترامب وتصريحاته يشيران إلى أمرٍ وحيدٍ على صعيد العلاقات بين الدول والشعوب ألا وهو عقلية “البزنس” والصفقات بمعزل عن أي أمر آخر، وهذا هو تماماً جوهر النظام الرأسمالي الذي تلطى على مدى عقود من الانقسام بين معسكرين رأسمالي واشتراكي خلف شعارات برّاقة لم يُمارسها يوماً سوى من باب المنافسة مع خصمه الاشتراكي، ومع انهيار هذا الخصم واختفائه عن الخارطة العالمية بدأ النظام الرأسمالي يكشف عن وجهه الحقيقي، وهو وجه يشبه تماماً نظام العبودية الذي كان سائداً في عصر الامبراطورية الرومانية القديمة بفارق أن هذا النظام اليوم لا يأخذ البشر عبيداً كأفراد بل كدول وأحلاف.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  بين "كاريش" وغاز مصر وجولة بايدن: الطاقة أو الأمن أولاً؟