

المعركة الوقائية على طريقة رونالد ريغن التي يقودها دونالد ترامب عبر إعلان الحرب التجارية هي جزء من حرب كبرى ستنتـهي إمَّا بهزيـمة الولايـات المتـحدة أو بتقلـُّـص دورها الإمبراطــوري حتـى حدود الـزوال، وستظهر توازنات دولية جديدة شاء ذلك الإستراتيجيون الأميركيون أم أبَوْا.
لقد نسِيَ المغامرُ ترامب بنرجسيّتهِ الربحيّة الرأسمالية أنَّ المثقَّف الإستراتيجي الأميركي زبغنيو بريجنسكي [شغل قبل وفاته منصب مسنشار الأمن القومي في الولايات المتحدة] اعترفَ قبل نحو عشر سنوات أنَّ الإمبراطورية الأميركية لن تبقى وحدها في قيادة العالم، وأنَّها لن تستطيع إيقاف الصعود الصيني. كان بريجنسكي يقرأُ اقتصاديَّاً وحضارياً فأقرَّ بالحقائق على خلاف فرنسيس فوكوياما الذي قرأ رَغْبويَّاً ودِعائيَّاً فاخترع بدعة “نهاية التاريخ” وادَّعى بما يتمنَّىاه من انتصار العولمة الرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لم يسمع ترامب نصيحة بريجنسكي حين قال إنَّ الولايات المتحدة تحتاج إلى الحكمة والتعقُّل، بل اختار درب فوكوياما ظاناً أن التاريخ انتهى بالفعل، فقرّر أن يُغامر ويُحارب العالم. أراد أن يُنقِذَ الرأسمالية والسيطرة ألأميركية، ففاجأته الصين بأوراقها الاقتصادية والعلمية والسياسية والتاريخية والحضارية، بينما لا يملك ترامب سوى الورقة الاقتصادية وهي – على الأقلّ – ليست رابحة إنْ لم تكن خاسرة بالفعل. الأرقام تثبتُ ذلك، فإذا كان الناتج المحلّي الأميركي يتفوَّق على الناتج المحلي الصيني راهناً بـِ 4 تريليون دولار فإنَّ هذا الفارق سيزول عام 2030 كما تدلُّ المؤشِّرات التنموية الصينيّة التي وصلت في السنوات الماضية إلى معدَّل نموٍّ في الاقتصاد الكلّي بنسبةٍ راوحت بين 7% و11%. وهذا فضلاً عن أنَّ التفوُّق الإستراتيجي الاقتصادي لا يُقاسُ بحجم الناتج المحلّي وحده، بل بمستوى تعادل القوة الشرائية للعملة الوطنية مقارنة بأسعار العملة الدولية التداوليّة، وهنا تتفوَّقُ الصين بأشواط واسعة على الولايات المتحدة. ولهذا السببِ المهمِّ انعكست حرب رسوم ترامب التجارية على الداخل الأميركي، ولم تنعكس على الداخل الصيني في معادلةٍ يكسبُ فيها اليوان على الدولار الذي دخل بسرعة في حقل الشكوك في الربع الأول من العام الحالي.
لقد تلقَّى ترامب صفعاتٍ مُحرقاتٍ. أسواق الأسهم الأميركية خسرت حتى الآن عشرة تريليونات دولار. كلفة معيشة المواطن الأميركي تضاعفت ثلاث مرات. آلاف الموظـفـين طـُرِدوا من أعمـالـهم فازدادت مـعـدلات البطالة الأميركية. سندات الخزينة الأميركية تراجعت قيمتها، وهناك رعب في البيت الأبيض من احتمال إقدام بكين على طرح السندات الأميركية في لجَّة هذا الصراع، ولا سيما أنَّها هي المالك الأكبر لهذه السندات بعد اليابان. وفوق هذا كلِّه تفجَّرَ الخلاف بين إدارة ترامب والبنك الفيدرالي الأميركي الذي يرفض تلبية رغبة هذه الإدارة بخفض الفائدة.
أمَّا الإشارة البارزة التي غفِلَ عن احتسابها كثيرون فقد أتت من كاليفورنيا. هذه الولاية هي الثالثة في ترتيب الولايات الأميركيّة، وتُعارِضُ بشدَّةٍ إجراءات ترامب. ولها دور مؤثِّرٌ جدّاً، كونها الاقتصاد الخامس في العالم، وناتجها الإجمالي 4 تريليونات دولار وهو الذي يحقق الفارق الراهن في الناتج المحلِّي بين الولايات المتحدة والصين. وإذا استمرَّت في الاعتراض – وهـذا هـوالأرجح – فإنها ستؤثِّر سلبياً على معركة ترامب، وقد بدأت المؤشرات بالظهور عندما طعنت كاليفورنيا قانونياً بإجراءات الرسوم الجمركية. وهذا الأمر أعطى بُعداً سياسياً إضافةً إلى البعد الاقتصاد، كون الدعوات الداخليّة إلى انفصال كاليفورنيا واستقلالها ما زالت تتصاعد.
تمتلك الصين ثروة هائلة من الخامات الطبيعية ولا سيما المعادن الثمينة النادرة. وباستطاعتها أن تمنع تصديرها إلى الأميركيين وحلفائهم، لكن الطامّة الكبرى على إدارة ترامب هي أنَّ الصين متفوقة على الولايات المتحدة في تقنية الاستخراج والتكرير، فحتى لو حصلـوا على هـذه المـعادن – كما يحاولون مع أوكرانيا – فإنَّ الصين وحدها في العالم تمتلك 97% من هذه التقنيات
إزاء ذلك تزداد الطريق وعورةً أمام ترامب. وإذا كانت العقبات الداخلية هي الواضحة جداً الآن فإنَّ أوهامه حول خضوع الصين ومسارعتها إلى استرضائه تبخَّرت كلُّها، بسبب عوامل عديدة يمكن إيجازها بما يأتي:
أوَّلاً؛ سارعتِ الصين إلى الرفض فوراً، وردَّت بأنَّها ستقاتل حتى النهاية، ولن تسمح للولايات المتحدة تحت قيادة ترامب أو غيره بأن تدمِّر البناء الصيني المتراسخ منذ ثلاثةِ أرباع القرن. وهذا ما أكَّده مراراً الرئيس الصيني شي جين بينغ. وهو يمتلك إستراتيجية فكرية وعملية أقرَّها الحزب الشيوعي الصيني، لكن الأميركيين ظنُّوا أنها مجرَّد كلام، لذا ردَّ الرئيس الصيني على ترامب سياسياً، وشدد على قوة الصين العسكرية قبل أن يكشف بتدريج ذكيٍّ وهادىءٍ أوراق قوته الاقتصادية وهي أوراق كثيرة وكبيرة يصيبُ بعضها الاقتصاد الأميركي بمقتل، كما يصيب الفرْدانية الأميركية بكل تأكيد.
ثانياً؛ الأوراق الاقتصادية التي تتمتعُ بها الصين بلغت مستوى من القوة لا يمكنْ أنْ يتجاهلَه أيُّ مراقبٍ موضوعيّ. تستورد أميركا من الصين أربعة أضعاف ما تورِّدُه إليها. وهي مدينة للصين بمليارات الدولارات. و70% من صناعاتها ترتكز على المواد الأولية الصينية، ولا سيما المواد المستخدمة في صناعة الإلكترونيات الدقيقة، وصناعة الطائرات بما فيها بعض الأجهزة الحساسة في الطائرات[f-35] ثمَّ إنَّ عدداً كبيراً من الشركات الأميركية تقيم مصانعها في الصين وتنتج سلعاً تطرحها في السوق بأرباح خيالية.[مثلاً: 50% من أجهزة “آيفون” تُصنّع في الصين] وهذا فضلاً عن عوامل أخرى لا مجال لتعدادها هنا، فكيف سيكمل ترامب حربه؟ وكيف سيتفادى الركودَ في اقتصادِ بلاده وقد بات يتخوف من حصوله كثيرون من الإقتصاديين الأميركيين؟
ثالثاً؛ تمتلك الصين ثروة هائلة من الخامات الطبيعية ولا سيما المعادن الثمينة النادرة. وباستطاعتها أن تمنع تصديرها إلى الأميركيين وحلفائهم، لكن الطامّة الكبرى على إدارة ترامب هي أنَّ الصين متفوقة على الولايات المتحدة في تقنية الاستخراج والتكرير، فحتى لو حصلـوا على هـذه المـعادن – كما يحاولون مع أوكرانيا – فإنَّ الصين وحدها في العالم تمتلك 97% من هذه التقنيات. وهي ليست مضطرة للتبرُّع بها إلى أحد، لذا فإن المستقبل الصناعي يكون لها، وليست الحرب التجارية عليها قادرة على الانتصار.
أخيراً؛ لا تجرؤ إدارة ترامب على الاعتراف بالميزان الحضاري الذي يميل إلى مصلحة الصين التي تستند إلى دولة حضارية يجاوز عمرها أربعة آلاف عام، فيما عمر الولايات المتحدة لا يتجاوز قرنين ونصفاً. ولهذا فإنَّ الولايات المتحدة هي مدنية تقنية لا حضارة، بينما الصين هي حضارة وتقنية معاً. وبناء عليه فالولايات المتحدة لا تتمتَّع بهوية وطنية حضارية بعكس الصين تماماً. وهنا تُبرهن حركة التاريخ أنَّ النصر يكون للحضارة لا للمدنية التقنية. وقد فهم الحزب الشيوعي الصيني هذه المعادلة فعرف كيف يوائم بين الماركسية كفكر حديث وبين الكونفوشية والطاويّة والبوذية كفلسفات تراثية.
القرار السياسي الصيني هو معادلةُ قوةٍ مركَّبة على كل هذه العوامل التي يفتقد إليها القرار الأميركي. ترامب سيكون مجبراً على التراجع أو يكمل المغامرة من الاقتصاد إلى العسكر والنار. وفي الحالتين لا توجد مؤشرات لانتصاره فالعقد المقبل هو عقد الاعتراف بالدور القيادي للصين في العالم. وربّما هذا يفسر كلام الرئيس الصيني لترامب قائلاً: “لدينا القدرة على تدمير أميركا، وعندنا الاقتصاد والثروة والسلاح النووي”.