تركيا المُتعبة إقتصادياً.. هل تُعاقب إردوغان اليوم؟  

قبل مئة عام أسّس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية العلمانية الحديثة. في هذا اليوم، يطمح الرئيس رجب طيب إردوغان إلى تأسيسٍ ثانٍ لتركيا في حال فوزه في الإنتخابات المفصلية التي تشهدها بلاده اليوم (الأحد).

لم تكن التحديات التي تواجه إردوغان بالحجم الذي يواجهه في إنتخابات اليوم. منذ عشرين عاماً وحتى اليوم تمكن الرجل من الفوز بخمسة إنتخابات تشريعية وإنتخابين رئاسيين وثلاثة إستفتاءات، كما نجا من محاولة إنقلابية. وإختار إردوغان المولع بالتاريخ يوم الرابع عشر من أيار/مايو موعداً للإنتخابات، لأن في مثل هذا اليوم من عام 1950، عاد الإسلاميون إلى المشهد السياسي في الإنتخابات التي جرت عامذاك.

يواجه إردوغان “تحالف الأمة” الذي يضم ستة أحزاب بينهم حزبان منشقان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، علي باباجان (واضع السياسات الإقتصادية لحزب العدالة والتنمية الإقتصادية) وأحمد داود أوغلو (مهندس السياسات الخارجية للحزب)، وحزب “الجيد” المنشق عن حزب الحركة القومية العلماني المتشدد المتحالف مع العدالة والتنمية. وإذا ما أضيف إلى هذا التحالف حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، من خارج ما بات يعرف بـ”الطاولة السداسية”، فإن مرشح المعارضة زعيم حزب الشعب الجمهوري (الحزب العلماني الذي أسّسه أتاتورك) كمال كيليتشدار أوغلو يجمع نظرياً دعماً شعبياً قادراً على وضع حد لحكم إردوغان.

تركيا على موعد مع ساعات تاريخية: هل تمضي في الإتجاه الإسلامي المحافظ، أم ينجح من تبقى من العلمانيين بمرشحهم كمال كيليتشدار أوغلو في وضع حد للحقبة الإردوغانية المستمرة منذ عقدين؟ في كلتا الحاليتن ستكون هناك ترددات للإنتخابات التركية في الداخل والخارج

لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فإستطلاعات الرأي تمنح هامشاً ضئيلاً لمصلحة كيليتشدار أوغلو. وقد تعزّزت هذه النسبة بعد إنسحاب رئيس حزب “الوطن” محرم أنجه المنشق عن حزب الشعب الجمهوري من السباق الرئاسي، قبل ثلاثة أيام من موعد الإنتخابات. هذا التطور بدأ يطرح إحتمال حصول مرشح المعارضة على أكثر من 50 في المئة لحسم الإنتخابات من الجولة الأولى، وإذا لم يحصل ذلك، سيتعين الذهاب إلى جولة رئاسية ثانية في 28 أيار/مايو الجاري. وهنا يكمن التحدي عندما يصير المرشحان وجهاً لوجه. إردوغان الذي يتمتع بالكاريزما في مقابل كيليتشدار أوغلو الذي يتمتع بشخصية “غير مُبْهِرة” وفق وصف صحيفة “الغارديان” البريطانية.

ومع ذلك، تبني المعارضة رهاناتها على الواقع الإقتصادي والإجتماعي السيء الذي تعيشه تركيا منذ سنوات. تدهور مستمر في قيمة الليرة التركية في مقابل الدولار (فقدت الليرة 60 في المئة من قيمتها في العامين الماضيين)، وإرتفاع في التضخم (بدأ يشهد إنخفاضاً في الشهرين الأخيرين مع تشكيك المعارضة بالأرقام الرسمية). هروب رؤوس الأموال من البلد: كان المستثمرون الأجانب يملكون 64 في المئة من الأسهم التركية و25 في المئة من السندات الحكومية قبل خمسة أعوام، بينما تدنى هذان الرقمان إلى 29 في المئة و1 في المئة فقط، في الوقت الحاضر.

وبحسب أسبوعية “الإيكونوميست” البريطانية، فإن المصرف المركزي التركي ينفق مليار دولار يومياً للجم تدهور الليرة. وتلخص مسيرة الإقتصاد التركي بدورتين إقتصاديتين، عشرة أعوام سمان تلتها عشرة أعوام عجاف. وكثيرون ممن إستفادوا من الفورة الإقتصادية هم محافظون وشرائح من الطبقة الوسطى، التي كانت تعاني تجاهلاً من النخب العلمانية الحاكمة قبل 2002.

وزاد الزلزال المدمر في 6 شباط/فبراير الماضي، من المصاعب التي يواجهها الحزب الحاكم، في ظل الشكاوى من الإستجابة البطيئة للسلطات في الإغاثة ولما تبين من فساد في عمليات بناء المنازل. ويستذكر مراقبون كثيرون كيف كان زالزال 1999، سبباً رئيسياً في تهاوي شعبية الأحزاب العلمانية، وبدء صعود حزب العدالة والتنمية بوصفه حزباً منزهاً عن الفساد. لا بد أن هذه الصورة قد إهتزت أيضاً من جراء الزلزال الأخير.

إلى الوضع الإقتصادي، يحكم إردوغان منذ أن نقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، بصلاحيات واسعة. أحكم قبضته على القضاء وسجن عدداً كبيراً من الصحافيين، وأعفى رؤساء بلديات منتخبين في المناطق الكردية من مناصبهم. وضيّق على الأحزاب، ومثلاً كانت هناك دعاوى مرفوعة لحظر حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديموقراطي. وهناك أكثر من 200 ألف تحقيق في دعاوى “إهانة الرئيس”. هذا عدا عن حملة التطهير التي تلت المحاولة الإنقلابية في 15 تموز/يوليو 2016، وطاولت عشرات الآلاف من الموظفين في مؤسسات الدولة المختلفة، بتهمة الإنتماء إلى مؤسسة فتح الله غولن، الحليف السابق لإردوغان في سنوات حكمه الأولى، وعدوه اللدود الآن.

المعارضة تعد بتغيير كل ذلك وبإستعادة النظام البرلماني وبتحرير القضاء وبمنح المصرف المركزي إستقلالية في السياسة النقدية، بما ينسجم مع أنماط السوق التقليدية التي تقول إن رفع أسعار الفائدة يساعد على كبح التضخم، في حين أن إردوغان يصر على أن سياسة معاكسة، كانت سبباً في إقالة ثلاثة حُكّام للمصرف المركزي في عامين.

لا أحد يمكنه إنكار أن إردوغان جعل من تركيا لاعباً رئيسياً في السنوات الأخيرة. من سوريا والعراق إلى ليبيا والقوقاز وشرق المتوسط. وجنح نحو روسيا والصين، من دون أن يتخلى عن الغرب كلياً، لكنه إنتهج سياسة مشاكسة للولايات المتحدة في كثير من القضايا الدولية

يقدم إردوغان نفسه على أنه رجل المشاريع الكبرى. من بناء الجسور إلى صناعة السيارات الكهربائية إلى بناء السفن وصناعة أول حاملة طائرات تركية إلى إنتاج الطائرات المسيرة “بيرقدار” التي شكّلت نقطة تحول في حروب كثيرة من ليبيا إلى أثيوبيا إلى ناغورنو-قراباخ إلى أوكرانيا. ولا يشذ عن قاعدة التباهي، المبالغة في الحديث عن إكتشافات حقول الغاز في المتوسط والبحر الأسود.

إقرأ على موقع 180  "نورد ستريم"... هل يدفع ترامب الأوروبيين إلى التقارب أكثر مع روسيا؟

وعلى المستوى الإقليمي والدولي، لا أحد يمكنه إنكار أن إردوغان جعل من تركيا لاعباً رئيسياً في السنوات الأخيرة. من سوريا والعراق إلى ليبيا والقوقاز وشرق المتوسط. وجنح نحو روسيا والصين، من دون أن يتخلى عن الغرب كلياً، لكنه إنتهج سياسة مشاكسة للولايات المتحدة في كثير من القضايا الدولية. وبرز ذلك في إصراره على شراء نظام الدفاع الجوي الروسي “إس –400” من روسيا، والعقوبات الأميركية التي تلت ذلك. وبرز الخلاف مع أميركا كذلك في أوكرانيا، عندما لم تنضم أنقرة إلى نظام العقوبات الغربية، وقدّم إردوغان نفسه وسيطاً، يُعزى له الفضل في إبرام إتفاق تصدير الحبوب. لا يؤيد الهجوم الروسي أو ضم الأراضي الأوكرانية إلى روسيا، لكنه يرى أن تسليح الغرب لأوكرانيا لا يساهم في حال النزاع وأن الحوار هو الطريق الأقصر للتسوية.

أيضاً، تخلى إردوغان عن محاولات تركيا الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي بعدما لمس معارضة قوية من القوى الرئيسية في الإتحاد، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، التي إتخذت من القمع الداخلي الذي يمارسه الرئيس التركي ولا سيما في المسألة الكردية، ذريعة لإبطاء مسار مفاوضات الإنضمام. وعلى رغم ذلك، لا يذهب الإتحاد الأوروبي بعيداً في إستفزاز إردوغان نظراً إلى إستضافة تركيا أربعة ملايين لاجىء سوري. وفي عام 2015 عندما دفعت الحكومة التركية بمئات الآلاف منهم إلى الأراضي الأوروبية، وافقت بروكسيل على منح مساعدة لأنقرة بقيمة ستة مليارات دولار من أجل منع اللاجئين من العبور نحو أوروبا.

لم تكن كل سياسات إردوغان الخارجية ناجحة. فقد أخفق مشروعه لجعل تركيا تستعيد النفوذ على “الولايات العثمانية” في الشرق. إن ركوب موجة “الربيع العربي” لجعل الإسلام السياسي يحكم مصر وسوريا ودولاً عربية أخرى شهدت إنتفاضات في 2011، إنتهت إلى لا شيء. في المحصلة، إضطر إردوغان إلى الإنقلاب على نفسه في السنتين الأخيرتين، فسلك طريق البراغماتية وبدأ في فتح صفحة جديدة من العلاقات الإقليمية مع دول الخليج ومع مصر وحتى مع سوريا. وعاد إلى التطبيع مع إسرائيل بعد قطيعة سياسية (وليس إقتصادية) مع الدولة العبرية بعد واقعة سفينة الإغاثة “مافي مرمرة” التي كانت في طريقها لفك الحصار عن غزة عام 2010 وهاجمتها البحرية الإسرائيلية وقتلت عدداً من أفراد طاقمها.

تختزل أستاذة علم الإجتماع في جامعة كاليفورنيا جيهان توغال المشهد التركي في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز”، فتقول إنه أياً كان الفائز في الإنتخابات، فإن “تركيا في ورطة”

أين تقف المعارضة من السياسة الخارجية لإردوغان؟

كيليتشدار أوغلو يعد بإعادة تركيا إلى “الحضن الغربي” وتسوية ما أفسده إردوغان مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. ويعد بأنه إذا ما إنتخب رئيساً فإن السويد ستحصل على عضوية حلف شمال الأطلسي في غضون شهر، بعدما وضع إردوغان شروطاً تعجيزية على ستوكهولم كي يصادق البرلمان التركي على إنضمام هذه الدولة إلى الحلف برغم علمه بمدى الإلحاح الأميركي على هذه المسألة، كمكسب جيوسياسي في مواجهة روسيا. ووعد كيليتشدار أوغلو بإحياء مفاوضات الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي.

إن إتهام كيليتشدار أوغلو روسيا بالتدخل في الإنتخابات التركية، لم يكن علامة مُشجعة على ما يمكن أن يحدث من تغيير في السياسة التركية حيال موسكو، في مرحلة بالغة الخطورة بالنسبة لروسيا وحربها في أوكرانيا. إن تركيا تشكل الآن متنفساً للبضائع الروسية وهناك وعد من فلاديمير بوتين بتحويل البلاد إلى “منصة للغاز” الروسي، كبديل عن الغاز الذي كان يتدفق على أوروبا.

وإستطراداً لإحتمالات تغير السياسة التركية في حال إنتخاب كيليتشدار أوغلو رئيساً، فإن ذلك سينعكس أيضاً على التعاون التركي-الروسي في سوريا. زعيم المعارضة التركية واظب على إتصالاته بدمشق في ذروة الأزمة السورية، وتعهد بإعادة مليوني لاجىء سوري إلى بلادهم في غضون عامين. ذلك، سيعتمد طبعاً على التواصل مع الحكومة السورية. لكن ماذا سيحصل إذا ما إنصاع كيليتشدار أوغلو للفيتو الأميركي على أي محاولة للتطبيع مع سوريا؟

أسئلة كثيرة يمكن طرحها في خضم التحول الذي توشك تركيا على ولوجه، سواء لتجديد تفويضها لإردوغان أو لجهة إختيارها التغيير وإنتخاب كيليتشدار أوغلو. وتختزل أستاذة علم الإجتماع في جامعة كاليفورنيا جيهان توغال المشهد التركي في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز”، فتقول إنه أياً كان الفائز في الإنتخابات، فإن “تركيا في ورطة”.

تركيا على موعد مع ساعات تاريخية: هل تمضي في الإتجاه الإسلامي المحافظ، أم ينجح من تبقى من العلمانيين بمرشحهم كمال كيليتشدار أوغلو في وضع حد للحقبة الإردوغانية المستمرة منذ عقدين؟ في كلتا الحاليتن ستكون هناك ترددات للإنتخابات التركية في الداخل والخارج.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  سوريا تقوم، ولبنان ينهار.. أهي صدفة؟