مشكلة الولايات المتحدة ليست في القمة الكورية الشمالية-الروسية بحد ذاتها، إنما في ما يمكن أن ينتج عن هذا الحدث من إتفاق تُزوّد بموجبه بيونغ يانغ روسيا بقذائف مدفعية وصواريخ، في مقابل الحصول على تكنولوجيا عسكرية حسّاسة وطعام من موسكو.
منذ أن كشفت صحيفة “النيويورك تايمز” الأسبوع الماضي، عن إعتزام كيم جونغ أون زيارة روسيا في وقت سابق من هذا الشهر، والمسؤولون الأميركيون يطلقون تحذيرات يومية من مغبة إبرام صفقة تسلح كورية شمالية-روسية، ستترك إنعكاساتها ليس على الجبهات الأوكرانية فحسب، بل على توازن القوى على جانبي خط العرض 38 بين الكوريتين.
روسيا متعطشة إلى قذائف كيم جونغ أون، وكوريا الشمالية توّاقة إلى التقنية الروسية التي تُمكّن بيونغ يانغ من النجاح في وضع قمر إصطناعي محلي الصنع في المدار، لا سيما أن الصاروخ “تشوليما -1” الكوري الشمالي أخفق مرتين في أداء هذه المهمة في الأشهر الأخيرة، وإنعكس ذلك إرتياحاً واسعاً في كل من سيول وواشنطن. أما الآن وبمساعدة روسية، فقد يكون في إمكان كيم جونغ أون تحقيق حلمه قريباً. إذن لا بد من شدّ الرحيل إلى روسيا.
القمة المزمعة، تحصل على وهج حرب طاحنة في أوكرانيا وفي ظل توتر شديد في شبه الجزيرة الكورية. رقمٌ قياسيٌ في عدد التجارب التي أجرتها كوريا الشمالية على الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى هذه السنة. قابلت كوريا الجنوبية والولايات المتحدة هذه التجارب بتدريبات مشتركة واسعة النطاق، براً وبحراً وجواً وإستعراضاً لمقاتلات “إف-35” وقاذفات “بي-52″، وزيارات متكررة من قبل حاملات الطائرات والبوارج الأميركية للموانىء الكورية الجنوبية. وأشركت أميركا اليابان في بعض من هذه المناورات، بعد الضغوط التي مارسها بايدن على سيول وطوكيو لرأب الصدع بينهما والإلتفات إلى “الأعداء المشتركين”، أي روسيا والصين وكوريا الشمالية. ولم يجد الرئيس الأميركي أفضل من منتجع كامب ديفيد الأميركي ليجمع فيه الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في 18 آب/أغسطس الماضي. ومن نيودلهي، يقفز الرئيس الأميركي إلى فيتنام، لسبر أغوار قيام تعاون مع “العدو السابق” ضد “العدو الجديد”. ومهّدت أحدث حاملة طائرات أميركية “يو إس. إس. رونالد ريغان” للزيارة برسوّها في ميناء دانانغ الفيتنامي في 25 حزيران/يونيو الماضي. لم يكن هدف المقاتلات الراسية على متن الحاملة هذه المرة قصف مدن وموانىء فيتنام (الشمالية). هذه المقاتلات تحمل رسائل تحذير إلى الصين وكوريا الشمالية.
في حربٍ لا تلوح نهاية قريبة لها، تستعد روسيا والولايات المتحدة لإحتمالات قتال طويل ربما يمتد لسنوات. من العوامل الرئيسية في هذه الحرب هي إستنزاف الخصم على الجبهات وعلى الصعد الإقتصادية التي توفر التمويل للميدان
وفي 25 تموز/يوليو الماضي، إحتفلت كوريا الشمالية بالذكرى السبعين لهدنة الحرب الكورية في حضور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الذي لقي حفاوة واسعة في بيونغ يانغ، وكانت مناسبة تفقد فيها بعض الصناعات العسكرية وخصوصاً مصانع الصواريخ. ومن المؤكد أن “الرفيق” شويغو كما وصفته وسائل الإعلام الكورية الشمالية تكريماً، قد حمل الدعوة إلى كيم للقاء قمة مع بوتين.
في حربٍ لا تلوح نهاية قريبة لها، تستعد روسيا والولايات المتحدة لإحتمالات قتال طويل ربما يمتد لسنوات. من العوامل الرئيسية في هذه الحرب هي إستنزاف الخصم على الجبهات وعلى الصعد الإقتصادية التي توفر التمويل للميدان.
روسيا خاضعة لأقسى عقوبات غربية في تاريخها، وهذا ما يحملها على التفتيش عن الدول التي يمكن أن تُشكّل سنداً لها في حرب الإستنزاف. فكانت المُسيّرات الإيرانية من طراز “شاهد” وتعزيز التعاون العسكري والإقتصادي مع طهران، إحدى هذه الوسائل.
بعد إيران، يأتي الإنفتاح على كوريا الشمالية. وعلى رغم أن روسيا لا تزال تتفوق على أوكرانيا في غزارة نيران المدفعية، فإن الحصول على قذائف من كوريا الشمالية يمكن أن يُعزّز التفوق الروسي، وتالياً يُرهق مصانع السلاح الغربية الموضوعة في خدمة الجيش الأوكراني.
وسبق لبايدن أن برّر قراره تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية، بالقول إن هذه خطوة إضطر البنتاغون لإتخاذها لتعويض النقص في القذائف المدفعية التقليدية لدى الجيش الأوكراني، الذي إستهلك في الأشهر الأخيرة أكثر من مليوني قذيفة أرسلتها الولايات المتحدة، عدا عن تلك التي أرسلتها الدول الأوروبية، بينما البحث جارٍ من قبل الإتحاد الأوروبي عن أكثر من مليون قذيفة أخرى.
وبعد الذخائر العنقودية، أعلنت الولايات المتحدة عزمها تزويد أوكرانيا بقذائف اليورانيوم المنضب القادرة على إختراق المدرعات الروسية أكثر بكثير مما تفعله القذائف العادية. ومع أن إستخدام اليورانيوم المنضب يترك آثاراً على صحة حتى الجنود الذين يطلقونها، فإن واشنطن تتجاهل كل التحذيرات الصادرة في هذا الشأن، وتستعد لإرسال الشحنة الأولى مع دبابات “أبرامز” التي قرّرت تزويد كييف بها في الأشهر المقبلة.
وفي الواقع، فإن كوريا الجنوبية سبقت كوريا الشمالية في الإنخراط بجهود الحرب الأوكرانية. وفي 17 تموز/يوليو الماضي، زار الرئيس الكوري الجنوبي العاصمة الأوكرانية، وأعلن عن مساعدة “أمنية وإنسانية” لأوكرانيا. وتعتزم سيول تقديم مساعدة مالية لكييف قيمتها 394 مليون دولار في العام المقبل. وتضغط واشنطن على كوريا الجنوبية منذ أشهر كي ترسل قذائف مدفعية إلى أوكرانيا. ومن المتوقع أن يتصاعد الضغط الأميركي، في حال مضت كوريا الشمالية في تقديم مساعدة عسكرية لروسيا.
ومستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان الذي حذّر كوريا الشمالية من “دفع ثمن” إذا زوّدت موسكو بالسلاح، أعطى تفسيراً لدواعي القلق الأميركي بقوله: “واصلنا الضغط على القاعدة الصناعية العسكرية الروسية.. وها هم الآن يبحثون عن أي مصدر يتوافر لهم”.
إذن، الدخول الكوري الشمالي على خط تسليح روسيا، من شأنه أن يزيد متاعب الغرب ويستنزف مزيداً من قدراته التي سيكون مجبراً على تسخيرها لتحقيق هدفه الإستراتيجي وهو منع روسيا من الإنتصار في أوكرانيا.
وفي وقت سابق من العام الجاري، أعلن أكثر من مسؤول أميركي أن الصين تعتزم تزويد روسيا بالأسلحة، لتخفت لاحقاً هذه الحملة الأميركية، بعدما تحدّت بكين العاصمة الأميركية أن تُقيم الدليل على هذه المزاعم.
البعض في واشنطن يعتقد أن التحذيرات الأميركية هي التي أثنت الصين عن المضي في تزويد روسيا بالسلاح. لكن بالنسبة إلى كوريا الشمالية، ثمة شكوك بإمكان أن تؤثر الضغوط الأميركية على قرار كيم جونغ أون، الذي سيرى في هذه الضغوط إثباتاً لسرديته عن مطاردة الغرب له. هذا ما يراه المؤرخ العسكري في جامعة كورنيل ديفيد شيلبي.
برغم أن روسيا لا تزال تتفوق على أوكرانيا في غزارة نيران المدفعية، فإن الحصول على قذائف من كوريا الشمالية يمكن أن يُعزّز التفوق الروسي، وتالياً يُرهق مصانع السلاح الغربية الموضوعة في خدمة الجيش الأوكراني
هل يُمكن أن تلجأ أميركا إلى الصين للضغط على بيونغ يانغ كي تمتنع عن تزويد موسكو بالسلاح؟ هذا إحتمال مستبعد في ظل التحشيد الأميركي لإحتواء الصين، إقتصادياً وعسكرياً. وعدم حضور الرئيس الصيني شي جين بينغ قمة العشرين التي بدأت أمس (السبت) في الهند، مؤشر إلى أن العلاقات الأميركية-الصينية لا تزال أسيرة توتر يمتد من تايوان إلى الذكاء الإصطناعي.
وعلى العكس، لماذا لا تُوظف الصين التعاون العسكري المزمع بين كوريا الشمالية وروسيا، من أجل الضغط على الولايات المتحدة؟ وما عساه يكون الموقف الأميركي في حال قبلت بكين إقتراحاً لبوتين بإجراء مناورات روسية-صينية-كورية شمالية مشتركة في مقابل المناورات الأميركية-الكورية الجنوبية-اليابانية المشتركة؟
لم يكن العالم على هذا النحو من الإنقسام حتى في ذروة أيام الحرب الباردة السابقة. وخطوط المواجهات ترتسم مع التكتلات الإقتصادية الناشئة، التي تبحث عن أدوار جيوسياسية تتوازن مع أحجامها الإنتاجية.
بعد قمة “بريكس” في جنوب أفريقيا، الشهر الماضي، والقرار الذي إتخذته بقبول عضوية ست دول جديدة، بات رهان الولايات المتحدة على إغراء الهند، بإتخاذ موقف أكثر تمايزاً عن بقية دول المجموعة واللعب على أزمة الحدود الهندية-الصينية، كي تضع عملاق آسيوي في مواجهة عملاق آسيوي آخر. لكن رهاناً كهذا لا يصادف حتى الآن حظوظ النجاح.