هذه المبارزة بين هذين المشروعين استعرت أولًا في سوريا، بهدف تأمين خط أنابيب الغاز من الخليج العربي إلى أوروبا عبر سوريا، وتشكيل حبل الأناكوندا حول رقبة روسيا. مزّقت روسيا حبل الأناكوندا، ثم انتقلت إلى أوكرانيا لتأمين محيطها الجيوسياسي، ورأينا حربًا على أرض سوريا لا تقل شدة عما هي عليه مع روسيا بالأمس ومع غزة اليوم.
وحرب غزة المستعرة منذ يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي تعد لها “حماس” منذ العام 2021، ليست ببعيدة عما سبق، ويمكن فهم تشابك ما يجري في غزة اليوم من صراع، إذا درسنا الواقع الإقتصادي في المنطقة والعالم، وبحثنا في مصلحة الصين وروسيا في تعطيل الممر الاقتصادي الجديد الذي يُنتظر منه أن يربط بين جنوب آسيا وأوروبا عبر الخليج العربي والأردن وفلسطين المحتلة.
غزة والواقع الاقتصادي العالمي
منذ بدء الصراع العربي الصهيوني، يتم الإيحاء بأن الصراع ديني بحت، برغم أن أسبابه إقتصادية بالدرجة الأولى، إذ غَرَس الغرب والولايات المتحدة “إسرائيل” في المنطقة العربية للسيطرة على منطقتنا العربية اقتصاديًا، وتحويلها إلى سوق، والحصول – عبر الهيمنة وإضعاف النزعة الصناعية في بلادنا – على النفط بأسعار رخيصة.
في العام 2000، عندما اقتحم آرييل شارون باحات المسجد الأقصى، ليطلق رصاصة بداية انتفاضة الأقصى، كان يبدو أن القدس هي الهدف، لكن الواقع كان في اكتشاف الغاز قبالة سواحل غزة. إذ أنه وفي أواخر التسعينيات الماضية تم اكتشاف حقل غزة مارين Gaza Marine، وهو حقل غاز طبيعي قبالة ساحل قطاع غزة.
وكانت انتفاضة الأقصى هي بداية حروب الغاز في المنطقة، إذ لا يمكن وضع عنوان لحرب بيروت عام 2006، إلا “غاز المتوسط”، كما أنه لا يمكن وضع عنوان للأزمة السورية عام 2011، إلا خط أنابيب الغاز لأوروبا، بغية تمكين أوروبا من الإستغناء عن غاز روسيا، ولف حبل الأناكوندا حول رقبة روسيا وهو المخطط الذي فشل تمامًا، لذا تمكن رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين من بدء العمل على إقتصاده (وجعله اقتصاد حرب) منذ العام 2015، أي منذ عام دخول الجيش الروسي إلى سوريا لحمايتها وكسر شوكة المجموعات الإرهابية المدعومة من الغرب وأميركا.
اقتصاد الحرب الروسي بالإضافة إلى حماية خط الأنابيب عبر سوريا، واحتياج الغرب للغاز الروسي، كل هذا مكّن روسيا من الدخول إلى أوكرانيا لاستكمال تأمين محيطها الجيوسياسي برغم العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا منذ مطلع العام 2022.
واليوم وتحديدًا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، نحن شهود على انتهاء حقبة حروب الغاز، وبدء حقبة حروب الممرات الاقتصادية رسميًا.
حرب غزة.. وحروب الممرات الإقتصادية
بعد أن تمكنت الصين من إنجاز اتفاق بين إيران والسعودية في آذار/مارس من العام الحالي، والأسئلة حول إمكانية استمرار الإتفاق هذا تشتعل لدى المحللين، لكن على صعيد آخر نشطت الولايات المتحدة الأميركية في تقديم عرض للسعودية لإنجاز التطبيع بينها وبين “إسرائيل”، وتم إعلان ملامح هذا المشروع (نقيض مشروع التقارب الإيراني السعودي) بصورة احتفالية عندما أعلنت الولايات المتحدة دعمها هي والاتحاد الأوروبي لمشروع ربط الهند بأوروبا عبر الخليج العربي والسعودية والأردن وفلسطين المحتلة، وتم الاعلان عن الممر الإقتصادي الجديد في أيلول/سبتمبر من العام الحالي، كأرضية للتطبيع السعودي ـ “الإسرائيلي”.
في ضوء ما سبق، قرأنا تحليلات كثيرة تتحدث عما إذا كان مشروع الممر الإقتصادي الجديد هو محاولة لإجهاض “مبادرة الحزام والطريق” الصينية (التي تربط الصين مع دول جنوب آسيا مرورًا بإيران والعراق وسوريا ومنها إلى البحر المتوسط، وأوروبا من خلال إيطاليا، وكذلك يمتد الطريق من الهند نحو المحيط الهندي إلى السعودية ومنه إلى البحر الأحمر ومصر).
بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، نحن شهود على انتهاء حقبة حروب الغاز، وبدء حقبة حروب الممرات الاقتصادية رسميًا
ولعل مجموعات حركة “حماس” الجوية التي أغارت على سماء فلسطين المحتلة، ومُشاتها الذين تمكنوا من اختراق الحواجز الأمنية والوصول إلى ما يُسمى “غلاف غزة” واعتقال المئات من “الإسرائيليين” وحصولهم على كنز من المعلومات الإستخبارية بعد الهجوم (فك سيرفيرات غرفة عمليات فرقة غزة)، وكل ما حصل في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، يُعد السطر الأول في الإجابة على السؤال حول من سينتصر في النهاية؛ الممر الاقتصادي الجديد أو “مبادرة الحزام والطريق” الصينية؟
إن الممرات الإقتصادية تحتاج قدرًا وافرًا من الأمان، وقد أكدت قوات المقاومة الفلسطينية في غزة في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر أنه غير متوفر في فلسطين المحتلة، وزادت الشكوك حول إمكانية انطلاق هذا الممر الإقتصادي الغربي الأميركي الساعي لمناكفة التنين الصيني.
وفي ضوء ما سبق، يمكننا أن نفهم سبب غضب بايدن الذي اعتبر العملية العسكرية التي قامت بها “حماس” وكأنها صفعة موجهة إليه، وهي بالفعل صفعة موجهة له وللغرب، ومن هنا نفهم سبب انحياز الغرب اللاأخلاقي لـ”إسرائيل” التي لم تتورع منذ أكثر من أسبوعين عن ارتكاب أبشع الجرائم الإنسانية في غزة، ببساطة لأن مصالحها الإقتصادية ـ وما تُمثل ـ باتت مُهدّدة بالفعل.
وفي ضوء ما سبق يمكننا فهم البيان الصيني الذي صدر بعد يوم من عملية “طوفان الأقصى”، والذي دعت فيه الصين إلى ضبط النفس، ولم تكن ردة فعل كل من الصين وروسيا بنفس حدّة ردود الفعل الغربية التي اعتبرت “حماس” إرهابية، في حين تستمر روسيا بفتح الخطوط مع المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها “حماس”، واصفة خطوتها هذه بأنها سعي مستمر للوساطة بين كل الأطراف.
حماية “الحزام والطريق”
في 18 تشرين الأول/أكتوبر (بعد أحد عشر يومًا على “طوفان الأقصى”) حلّ فلاديمير بوتين ضيفًا على نظيره الصيني شي جين بينغ وعقدا جولة واسعة من المحادثات، كان على رأس جدول أعمالها رفض قصف المستشفى الأهلي الميداني في غزة، لكن الملفت للنظر هما تصريحان لبوتين الأول يقول فيه “لديّ انطباع بأن اللاعبين الرئيسيين لا يريدون تعميق الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي”، والثاني يُشدّد فيه على أن “روسيا مهتمة بتطوير مبادرة (حزام واحد – طريق واحد) الصينية”.
إن ما سبق كله، وطبيعة رقعة الشطرنج، يفرضان علينا السعي لفهم أحداث غزة الأخيرة، في ضوء الصراع الدولي المحتدم، وكما أن ما سبق يُمكن أن يشرح لنا سبب الإنحياز الغربي والأميركي، فإنه يشرح لنا أن عملية “حماس” الاستخبارية والقتالية، ربما تمت بغطاء روسي صيني لحماية “طريق الحزام” ليبقى “طريقًا واحدًا”، وهذا يفتح باب الاحتمالات على شرق أوسط جديد، لكنه لا يُرضي حتمًا الغرب وأميركا أو “إسرائيل” وليس على الصورة التي يشتهونها.