الحرب المريرة.. تآكل الردع من العاروري إلى “الضربة الكبرى”!

مشهد الحرب الإسرائيلية في لبنان، مختلف بنسبة كبيرة عن المشهد الذي رسمه حزب الله خلال السنوات الماضية عن "الحرب المقبلة". ملامحه لا تشبه ملامح ارتسمت في مخيال جمهور الحزب، عن الحرب والعلاقة مع تفاصيلها وأحداثها المفصلية.

كسهمٍ برأسين، ضربت الصدمة الأمنية والنفسية أنصار المقاومة في لبنان. ولعلّ الضرر من محاولات إخفاء ذلك، يكاد يكون أكبر من ضريبة طبيعية وضرورية للتعامل معها كوقائع.

وليس بعيداً عن المعركة العسكرية، يواجه الحزب، اليوم، محاولات متزايدة من خصومه وأعدائه لاستثمار أزمته، وهنا، تبدو الواقعية بنسختها غير الانهزامية، أقدر على إدارة الأوضاع بطريقة تمنع الشعور بأنّ كل شيء قد انتهى. المعركة مستمرة، وقد أظهر الحزب أداء يوحي باستيعاب ملحوظ لما جرى، ويُعبّر عن ذلك استمرار وتيرة إطلاق الصواريخ، والتصدي البرّي المتواصل لقوات الاحتلال، والبيان الأخير لغرفة عمليات المقاومة الإسلامية بما تضمنّه من رسائل ميدانية تُعطي إشارات مُطمئنة لجمهور الحزب عن وضعه العسكري.

طالت هذه الحرب أم قصرت، كان لا بدّ لها أن تقع. ولا مبالغة في القول إن جزءاً كبيراً مما حضّرته إسرائيل كان سابقا لما حصل في غزة. لكن الحرب وقعت بصيغتها الحالية. كأنّه مسلسل بأجزاء عدة. كان الجزء الأول بعنوان جبهة الإسناد. امتد أكثر من 10 أشهر، وشهد تصعيدًا بسقوفٍ متفاوتة، كان من أبرزها القصف على الضاحية الجنوبية لبيروت، أي ضربات تحت الحزام بحسب معايير ما قبل الحرب الحالية.

كانت البداية مع اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي في حماس صالح العاروري في كانون الثاني/يناير 2024. ولم يأت الرد على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت بما يُرمم الردع. تكرّر استهداف الضاحية بعد ذلك بأشهر عبر اغتيال القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر. بعد ساعات من ذلك، وفي الليلة نفسها، جاء الخبر من طهران: اغتيال رئيس المكتب السياسي في حماس إسماعيل هنية. حتى تلك اللحظة، كانت إسرائيل قد وجّهت للمحور الذي تقوده إيران أقوى ضرباتها. كانت لحظة مفصليةً بالنسبة لإسرائيل فقط، فالمحور لم يلاقها في منتصف طريق التصعيد. ختمت إسرائيل مرحلة من الحرب، لكن المحور بقي ملتزماً، وإيران من خلفه، بقواعد اشتباك سقطت حينها. مهّدت حكومة الاحتلال لخراب كبير قادم. وفي المقابل، لم يأتِ من حزب الله وإيران فعلٌ حقيقي يرفع الكلفة على إسرائيل لتعيد النظر فيما هي قادمة عليه.

كان السيد نصرالله مكبّلا بصور حرب تموز 2006، ومآلات “طوفان الأقصى” في غزة، ولعلّه كان مأسوراً بـ“لو كنت أعلم” التي صارح بها جمهوره والعالم عام 2006. لم يرد أن يتكرر المشهد الذي سكنه لسنوات لمئات آلاف العائلات المهجرة على امتداد لبنان وسوريا

رسالة نتنياهو.. حرب بلا سقوف

بالرغم من أهمية عمليات الإسناد اليومي من لبنان، وضربة الرابع عشر من نيسان/أبريل الإيرانية لإسرائيل، رداً على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، كان واضحاً أن المحور ليس ممسكاً بزمام التصعيد، وأنه لا يريد ذلك أصلاً. لكن، وبقرار اغتيال شكر وهنية في الضاحية وطهران، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُرسل بالنار إشارة إلى أن الهدف المقبل هو الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، وبأنها حرب بلا سقوف، وهي العبارة عينها التي استخدمها نصرالله في خطابات عديدة منذ خطابه الأول بعد عملية “طوفان الأقصى” في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، ثم أعاد استخدامها في تأبين قائد “قوات الرضوان” وسام الطويل في كانون الثاني/يناير الماضي.

لقد كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها الحزب عن حرب بلا سقوف، ولا حدود، لكن إذا بدأت بها إسرائيل. وكان من جملة تدعيم هذا الخطاب الردعي، مثلاً، عرض مشاهد التقطتها مسيرات الحزب (هدهد) فوق منشآت حيوية على امتداد الخريطة من الشمال الفلسطيني إلى الوسط، كما وصل الأمر إلى حد تهديد نصرالله قبرص في حال سمحت باستخدام منشآتها من الطائرات الإسرائيلية للاعتداء على لبنان. كان كل ذلك هدفه منع الحرب وليس العكس. بالنسبة للأمين العام لحزب الله، كانت بالفعل جبهة إسناد ليس أكثر، وكان من المهم الحفاظ على موازين الإسناد لغزة. لكن ما بدأ يظهر بعد توسيع القصف على القرى اللبنانية البعيدة عن الحافة الأمامية للحدود، واستهداف كوادر الحزب لاغتيالهم أينما كانوا في جنوب لبنان، والبقاع لاحقاً، أظهر أن المعركة أشبه بالعبور وسط غابة وحوش بعربة مكشوفة وأجراس مجلجلة، ومن دون ما يكفي من سهام للرحلة التي رسمها الحزب وأراد إبقاءها محدودة. هل حاصر الحزب نفسه بأهداف محدّدة وصغيرة تفاديًا لحرب إسرائيلية كبرى تُهجّر مئات الآلاف وتقتل الآلاف؟ على الأرجح نعم، وهذا ما كان متداولًا في النقاشات ضمن مختلف الدرجات في “بيئة” الحزب.

خطأ مساحة رد الفعل بدل الفعل

كان السيد حسن نصرالله مكبّلا بصور حرب تموز 2006، ومآلات “طوفان الأقصى” في غزة، ولعلّه كان مأسوراً بـ“لو كنت أعلم” التي صارح بها جمهوره والعالم عام 2006. لم يرد أن يتكرر المشهد الذي سكنه لسنوات لمئات آلاف العائلات المهجرة على امتداد لبنان وسوريا. لكن الحقيقة هي أنه لم يكن الوحيد المسكون برادع ثقيل. حليفته إيران بشخص القائد الأعلى آية الله علي خامنئي كانت أيضاً في حالة تكبيل منذ لحظة اغتيال أميركا لقائد قوة القدس قاسم سليماني في بغداد في كانون الثاني/يناير 2020، وما تلاه من عمليات أمنية إسرائيلية وأميركية داخل إيران وفي مساحة نفوذها الفعال. كما أن النووي غير المكتمل دفعها للرهان على لحظة توافق دولي لانهاء الحرب في غزة. المعضلة هنا كانت وما زالت أن إيران ومحورها حصروا أنفسهم في مساحة رد الفعل، بينما أمسكت إسرائيل بزمام الهجوم وتوجيه ضربة بعد ضربة، مطمئنة إلى أن عدوها لن يبادر إلى ما هو خارج سياق خطته الأصلية، وسيبقى ملتزما بها ليجنب نفسه الحرب، فكان أن فتحت إسرائيل الحرب، وإن لم يصطلح بعد على تسميتها بذلك.

في ظهيرة يوم الثلاثاء 17 أيلول/سبتمبر بدأت الأخبار تتواتر عن انفجارات متتالية في الضاحية الجنوبية ومناطق لبنانية مختلفة. جهاز “البيجر” الذي تستخدمه قطاعات متعددة في حزب الله، تحوّل بشكل حرفي إلى قنبلة موقوتة. كانت هذه أول المفاجآت الإسرائيلية الصادمة ليس فقط لحزب الله بل للعالم بأسره. كيف سلّحت إسرائيل الجهاز الآمن وسخّرته لارتكاب مجزرة كانت مخططة لتودي بآلاف الأشخاص. لقد كانت لحظة سيصفها الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله في آخر خطاب له يوم ١٩ أيلول/سبتمبر بالضربة القوية والثقيلة “لكن طبيعة الحرب طوال التاريخ أياً يكن الأطراف في هذه الحرب سجال، يوما لعدونا منا ويوم لنا من عدونا”، قال نصرالله.

من معركة بين الحروب إلى.. الحرب!

لم تكد تنقضي 24 ساعة على الهجوم الأكثر تعقيداً في الحرب الطويلة بين حزب الله وإسرائيل، حتى انفجرت أجهزة اللاسلكي. بدا المشهد سينمائياً أكثر منه لحظة تحوّل جذرية في حرب تخوضها إسرائيل على مستويات مختلفة داخل حزب الله تتضمن الأمني، سلسلة القيادة، الإتصال، وبطبيعة الحال البنية العسكرية. أحد هذه المستويات وأبرزها، ثقة المناصرين وحتى الخصوم بقدرة الحزب على حماية لبنان، وهو ما كان الحزب قد ألزم به نفسه لسنوات. هذا ما أظهره الحزب في العقد الأخير عبر أدائه المحوري في المعارك الإقليمية. كان الحزب وجمهوره على موجة واحدة تجاه معاركه في سوريا مثلاً، التي قدّمها من خلال أهداف مختصرة معلنة عنوانها حماية لبنان من التنظيمات الإرهابية. لكن سوريا كانت حرباً واسعة متعددة الوجوه، لذا كانت أيضاً مسرحا لمواجهة واسعة وغير تقليدية مع إسرائيل، صنّفها الاحتلال تحت عنوان “المعركة بين الحروب”. كان ظاهرها عسكرياً عبر الغارات لمنع وصول السلاح النوعي للحزب. وكان باطنها أمنياً حيث سهّل نمط الحرب لإسرائيل جمع الكثير مما لم تستطع جمعه في لبنان، وذلك لأسباب كثيرة فرضتها طبيعة الحرب وسعَتها، وتوافر أسباب أكثر للاختراق الأمني ضمن جسم الحزب وحلفائه هناك. هل مهّد ذلك لجزء كبير مما جرى اليوم؟ على الأرجح نعم، وهو ما أحسن الاحتلال استغلاله بعد صبر وجهد كبيرين.

لنعد إلى ما بعد اختراق الأجهزة. تغيب الشمس وتُشرق مرتين. عملية اغتيال جديدة في قلب الضاحية (القيادي إبراهيم عقيل ومعه كل قيادة فرقة الرضوان). كانت الأولى التي تتسبب بمجزرة راح ضحيتها عشرات المدنيين. كسر الاحتلال معادلة جديدة. كان أسبوعًا حمل كل ما لا يمكن لعقد كامل أن يحمله من أحداث. في نهايته ردّ حزب الله بشن هجمات صاروخية ليلية على مناطق مختلفة وبدائرة أوسع وأهداف تُقصف للمرة الأولى: قاعدة رامات دافيد الجوية، ومناطق في حيفا. اشتعلت النيران وقدّم الحزب حينها صورة جديدة لقوته، لكن إسرائيل واصلت توسيع استهدافاتها في لبنان. بدأ الحزب في تلك اللحظة كملاكم محصور في زاوية الحلبة يتلقى الضربات.

عدم رؤية البجعة السوداء الآتية

في يوم السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر نزلت على رأسه الضربة الأكثر قسوة. طائرات F-35 أميركية الصنع شنّت أكبر هجماتها في لبنان، ونجحت في اغتيال السيد حسن نصرالله حيث كان موجودا في مقر غرفة الحرب في ضاحية بيروت الجنوبية. هكذا، وبعد آلاف الغارات على جنوب لبنان والبقاع في الأيام السابقة، لم يعد لدى أحد من شكوك: لقد بدأت الحرب.
خلال 11 شهراً خاض حزب الله وإسرائيل حرب استنزاف متبادلة وبمعايير مختلفة. هجّر الحزب عشرات آلاف المستوطنين، وأدخل الجيش الإسرائيلي في حالة من الانشغال شمالًا. أخّر ذلك عمليات الاحتلال في غزة. عرض الحزب جزءاً من قوته بالصواريخ الموجهة، المسيرات، والإحاطة الكبيرة بخريطة انتشار القواعد العسكرية الإسرائيلية الحدودية وتلك التي في العمق. في المقابل، كان لافتاً للانتباه تحويل إسرائيل المعركة إلى أيام استنزاف مستمرة لحزب الله. كان ذلك من المرّات القليلة التي تخوض فيها قوات نظامية حرب استنزاف على قوة مقاومة. ولعل الذي عزّز الموقف الإسرائيلي في هذه المعركة، هو أنه وبعد أشهر قليلة، بات الاحتلال يفرض القسم الأساسي من إيقاع الاشتباك ومستوى سقفه. هنا بدأت تكثر في بيانات الحزب جمل تبدأ بعبارة :”وردًا على…”. هكذا دفع الاحتلال عدوه، أي الحزب، لمحاولة قراءة كل فعل ضمن سقف القواعد التي يلتزم هو بها حصراً، وهو ما منع المقاومة كحالة جماعية، وعلى مستوى القيادة العليا على وجه الخصوص، من رؤية البجعة السوداء القادمة (…).

إقرأ على موقع 180  العسكريون الأتراك.. رحلة العودة إلى الثكنات!

كنز الإنفلاش الإلكتروني

خلال السنوات التي سبقت الحرب، كان الحزب قد بدأ بالإنفلاش في لبنان والمنطقة بأريحية كبيرة، وبالحد الأدنى من الوقاية، على افتراض أنه من يُحدّد موعد الحرب مع إسرائيل. توسع الحزب كدولة، بجسم فيه الخليط من المدني والعسكري، إلى حد أصبح فيه البعض يأمل في أن يجد وظيفة في الحزب لضمان مستقبله على المدى البعيد. أصبح للحزب بطاقات مصرفية بشرائح ممغنطة لسحب الأموال من ماكينات الصرف الآلي الخاصة بمنظومته المالية، وبطاقات حسومات في متاجر مخصصة، إضافة إلى حضور طاغٍ على منصات التواصل الإجتماعي، ومجموعات داخل هذه التطبيقات عامة وخاصة. هذا الانفلاش الالكتروني على ما يبدو، شكّل كنزاً من المعلومات الجاهزة لإسرائيل وغيرها من الدول التي تصنّف الحزب عدوًا للجمع والتحليل. لم يكن يخطر في بال أحد أن أجهزة الأمن الإسرائيلية كانت تتجسس بشكل مباشر على أجهزة اللاسلكي الخاصة بالحزب، من خلال الخرق المزدوج والذي كشفت صحيفة “واشنطن بوست” أنه يعود للعام 2015. الصحيفة نقلت أن بطاريات أجهزة اللاسلكي المفخخة كانت كبيرة، وحوت متفجرات ونظاماً لرصد الاتصالات، وهذا يعني أن إسرائيل كانت حاضرة تقريباً في مجمل حركة التنظيم وحيث يعمل عناصر من حزب الله، وكانت قادرة على جمع المعلومات على مدى تسع سنوات وتحليلها، ومن ثم توظيفها في المعركة بشكل حمل في طياته الكثير من الصدمة والترويع. لكن رغم ذلك، تبقى القاعدة أن ما لا يقتلك يجعلك أقوى، ويبدو أن سلسلة الضربات التي تلقاها حزب الله خلال الأسابيع الماضية، أدخلته من دون قصد مرحلة جديدة فرضت عليه التخلي عن الكثير من أدوات المرحلة السابقة، والتأقلم مع الظرف الجديد، وهذا يبدو جلياً في مساحة المواجهة العسكرية التي ينشط فيها مقاتلو الحزب في التصدي للتوغلات الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية، وإطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل بمديات مختلفة بلغت حتى كتابة هذه السطور تل أبيب وما بعدها بقليل.

مصدر مقرّب من قوة القدس في الحرس الثوري: “اغتيال السيد حسن نصرالله ليس نهاية الحرب، ولذلك لا يمكن توقع أن تخوض المقاومة حربها الآن بشكل انفعالي لمجرد وقوع هذا المصاب الكبير”

القدرة.. وقرار القيادة

لكن أسئلة كبيرة ما زالت تنتظر الأجوبة حول قدرات الحزب المعلنة، والتي لم تستخدم إلى الآن وعن سبب التأخر في استخدامها. هنا الحديث لا ينحصر فقط عن الأسلحة الدقيقة التي لطالما تحدث عنها السيد نصرالله في خطاباته السابقة والتي حفظها انصاره وخصومه عن ظهر قلب، وانتظروا تفعيلها في ظروف كهذه. الأمر يتعدى ذلك إلى أسلحة الدفاع البحري التي استخدمها الحزب كجزء من مفاجآته في تموز/يوليو 2006 عندما حيّد بارجة إسرائيلية كبيرة في بداية الحرب قبالة سواحل بيروت، ولاحقاً زورقاً أمام شواطئ صور، إضافة إلى الدفاع الجوي الذي حضر بشكل نسبي خلال الأشهر الماضية، من خلال إسقاط حزب الله لمسيرات إسرائيلية متقدمة خلال عملها في الأجواء اللبنانية. بيان غرفة عمليات المقاومة الأخير أجاب عن ذلك، بأنّ القدرة على قصف أي نقطة في فلسطين المحتلة موجودة وهي تنتظر قرار القيادة.
ينسجم ذلك مع ما يتحدث به لـ”جاده إيران” مصدر مقرّب من قوة القدس في الحرس الثوري: “اغتيال السيد حسن نصرالله ليس نهاية الحرب، ولذلك لا يمكن توقع أن تخوض المقاومة حربها الآن بشكل انفعالي لمجرد وقوع هذا المصاب الكبير”، يقول المصدر في حديث غير مباشر بسبب الظروف المحيطة، ويشرح كيف أن الضربات المتتالية تسببت باهتزاز في البنية، لكنه يصرّ أن عملية التعافي انطلقت سريعاً من دون اعطاء تفاصيل، ثم يضيف: “الوجهة النهائية في الرحلة مهمة، لكن الطريق لا يحتاج للانفعال حتى عندما تفقد أهم القادة، المسألة ليست في الأشخاص، إنما في عدم الغرق في مستقنعات غير مرئية على الطريق، ولا يحتاج المحور للغرق، لذا فإن اللحظة ليست للشعارات الكبيرة إنما لتأمين الوصول الآمن مهما طالت الرحلة”.

يتلاقى هذا الإتجاه مع ما يُنقل عن الرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لينكولن حيث قال يوماً: “البوصلة تشير دائما إلى الشمال الحقيقي من حيث تقف، لكنها لا تقدم لك أي نصيحة حول المستنقعات والصحاري والوديان التي ستواجهها على طول الطريق. إذا اندفعت نحو هدفك غير مكترث بالعقبات، ولم تحقق شيئًا سوى الغرق في مستنقع، فما الفائدة إذًا من معرفة الشمال الحقيقي؟” لكن دبلوماسياً غربياً فاعلاً في المنطقة يرى سياق الأحداث من زاوية أخرى: إعادة رسم قواعد جديدة للنظام في المنطقة. في رأيه “فقدت إيران قدرة ردع كبيرة من حلفائها الإقليميين، ونجحت إسرائيل في تقليص قدرات حماس وحزب الله. ستحتاج إيران إلى التفكير في خيارات ردع أكثر جدية لضمان استقرار النظام. أعتقد أن هذا سيدفعها للتفكير بشكل أقوى في السباق نحو القنبلة النووية. لا أعتقد أن القرار قد تم اتخاذه بعد، ولكن احتماله أصبح أعلى بكثير مما كانت عليه قبل اغتيال نصرالله”. ويضيف الدبلوماسي إنه لا يرى إلى الآن نهاية واضحة لهذه المرحلة “من الواضح أننا لسنا قريبين من النهاية، أو من تشكيل وضع مستقر جديد. مهما كان، من المحتمل أن نرى إسرائيل في موقع إقليمي أقوى، ولكن في وضع أكثر اضطرابًا. وستحدد نتيجة الانتخابات الأميركية المقبلة مدى اعتمادهم على حليفهم الأول. قد يكون شهر كانون الثاني/يناير أقرب وقت نتوقع فيه حدوث الوضع الطبيعي الجديد”.

المعركة في.. بدايتها

وبغض النظر عن الآراء المختلفة في مرحلة ضبابية للغاية، لا يمكن حسم الوصول إلى “الوضع الطبيعي الجديد” أو الوضع السائد خلال أشهر قليلة، لأن الحرب تحولت بالنسبة لإسرائيل من جهة، والمحور الذي تقوده إيران من جهة ثانية، إلى ما يقترب تدريجياً من التحدي الوجودي للجميع، ولا سيما مع ارتفاع التكلفة الاستراتيجية على الطرفين. تدرك إسرائيل أنها برغم الإنجازات الميدانية التي حقّقتها لم تتمكن بعد من تحقيق أهدافها، برغم تفوقها العسكري والاستخباري والمادي، وتسخير قدرات الحلفاء والأصدقاء والجيران في مجالات الأمن والدفاع.

ما زالت الصواريخ تنطلق من كل جهات البوصلة نحوها. معركة لبنان ما زالت في بدايتها، ولدى حزب الله قيادة جديدة غير مرئية تخوض معركة دفاع وانتقام، وتنتظر فرصة بريّةً لتقديم صورة تعيد التوازن إلى المشهد.

أما محور المقاومة بشكل عام، فهو يواجه أكبر أسئلته الإستراتيجية، ويقف أمام معركة متعددة الأوجه. صحيح أن المعركة العسكرية هي الأصل الآن، لكنه يواجه أيضاً تحدي الترميم الداخلي، وإعادة إنتاج الأهداف المرحلية الواصلة بين الفكرة والهدف النهائي الذي يضعه. كذلك يواجه المحور أزمة في الخطاب الذي كان يستمد قوته من صاحبه في عين العدو والصديق. خسر المحور طاقة إعلامية هائلة باغتيال نصرالله، وهي طاقة كانت تسد الكثير من الثغرات البارزة والواضحة في منظومته الإعلامية. هنا تبرز أزمة الخطاب على نحو ملحوظ. ما كان سهلًا على نصرالله أن يقنع به الجمهور، لم يعد سهلا على من سيتولون المهام بعده. وهنا أزمة متصّلة بالخطاب.

لم يعد مفيدًا، لا بل كان مضرًّا، الإفراط في الاعتماد على التحليلات الإعلامية الإيجابية دائماً إلى حد التهريج، وكذلك النوم في عسل المقتطفات من الإعلام الإسرائيلي المجبول بالاعتراف بقدرات الحزب، وغير ذلك من محدودية النقاش الداخلي والنقد، كلّها أمور لا بدّ وأن ينظر المحور عموماً والحزب على وجه الخصوص في ضرورة تعديلها بنسبة كبيرة في ظلّ الحاجة إلى خطاب جديد، من دون أن يعني ذلك التخلي عن ثوابت قامت المقاومة في الاقليم على أساسها منذ عقود من الزمن. كل تحديات المحور قريبة ومتتالية. نتائج المعركة الميدانية ستكون أكبر مؤثر في الصيغة المستقبلية القريبة للمحور بمختلف طبقاته. لكن لا شيء يُمكن أن يؤجل للمستقبل، لأن المستقبل يعتمد على مدى القدرة على انتاج مسار جديد مغاير، تحت وابل الصواريخ من صليات المقاومة وحلفائها وغارات الاحتلال وحلفائه.

(*) بالتزامن مع “جاده إيران“.

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم ومحمد محسن

كاتبان وصحافيان لبنانيان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  في لبنان.. الفاسد كالعميل فوق المحاسبة