“اليوم التالي”.. وما ينتظرنا من كوارث!

قبل أسابيع تركّز اهتمامُنا، نحن أهل هذه المنطقة، على "اليوم التالي" لغزة. كانت غزة الفرصة التي لفتت انتباه البعض منا ـ ولو أن هذا البعض قليلٌ ـ إلى خريطة حملها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نيويورك ليرفعها أمام العالم بأسره. عرفنا يومها أو فيما بعد أن الخريطة لإسرائيل الكبرى.

لم تمر أيام كثيرة إلا وراح نتنياهو يعلن عزمه هو وحكومته على صنع شرق أوسط جديد. هكذا وبغزوات صريحة ودموية انتقل همنا واهتمامنا بـ”اليوم التالي” في غزة، أو أضيف، إليها الضفة ولبنان ثم سوريا. صار الهم أكبر، وازداد في المنطقة الانشغال بقضية “اليوم التالي” لتصبح، وبصياغة مناسبة، البند الأول غير المعلن على جدول أعمال اجتماعات عديدة للمسئولين عن مستقبل البلاد، وأظن من واقع خبرتي في متابعة هذا النوع من النشاط الإقليمي أن هذه الاجتماعات كانت غير مسبوقة في عددها وغير واضحة أو صريحة في مراميها وغير دقيقة ولا حاسمة في نتائجها. دليلي على كل ما سبق هو القلق المتعاظم في كل مكان بالشرق الأوسط، كبيره وصغيره وليس فقط في غزة، حول ما يمكن أن يجره علينا “اليوم التالي” من كوارث أخرى.

***

لسنا وحدنا، وهنا أقصد شعوب الشرق الأوسط برمته، سواء أكانت هذه الشعوب رعايا دول عربية أو دول إقليمية مثل الفرس والأتراك والأكراد والتركمان وحتى الإسرائيليين، أقول لسنا وحدنا الذين نحمل هم “اليوم التالي” أو ننشغل به وبما يحمل لنا.

أقرأ، كما يقرأ الكثيرون أو يسمعون ما أسمع، عن الموجات المتلاحقة من القلق التي اجتاحت وتجتاح مختلف قارات العالم منذ أعلن دونالد ترامب عن نيته ترشيح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. لن أتحدث عن القلق داخل الولايات المتحدة نفسها ففي ظني أنّ هذا الشعور سوف يتدرج في الصعود خلال الأسابيع الأولى من ولاية الرئيس الجديد مدفوعاً بتنفيذ ترامب لوعوده، ولكنني سأتناول القلق السائد في هذه الأيام في كل دول أمريكا اللاتينية بدون استثناء ليس فقط بسبب موقف الرئيس الجديد من قضايا الهجرة وإصراره على أن المهاجرين من هذه البلاد غالبيتهم مجرمون ولصوص وملونون، ولكن أيضاً بسبب التعاطف الدبلوماسي والسياسي من جانب حكومات أمريكا اللاتينية مع نظامي الحكم في كل من كوبا وفنزويلا، فضلاً عن تشجيعها المستتر لشعوبها على الهجرة إلى الولايات المتحدة.

الجديد والمثير في هذه الحالة، وأقصد القلق والانشغال المتزايدين لدى شعوب بعينها نتيجة اقتراب موعد تولي ترامب مهام منصبه، هو الصدى المكثف المعبر عن رد فعل شعب كندا إزاء تصريح ترامب قبل أسبوع أو أكثر قليلاً والذي حمل تهديداً صريحاً ومباشراً لرئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، بعقوبات مدمرة للاقتصاد الكندي لو لم تبذل حكومته جهودها لمنع عبور الأجانب إلى الولايات المتحدة.

صار الحلف الأطلسي يواجه أزمة لعلها بين أهم ما واجه على امتداد أكثر من سبعين عاماً. عادت أوروبا تحت ضغط الإنفاق على حرب لم تُقنع فيها بعد كل الشعوب الأوروبية، لتطالب حكّامها باستقلالية أكبر لأوروبا عن الهيمنة الأمريكية

أنا نفسي أذكر جيداً، وكنت طالباً في مونتريال، كيف كنا نعبر هذه الحدود، وهي الأطول في العالم، مرات عديدة في الشهر الواحد دون أي عقبة تذكر. لا شك أن أحوالاً كثيرة تغيّرت. وقتها لم تكن الولايات المتحدة تمر في شبكة من أزمات شديدة التعقيد كالحال الراهنة، منها على سبيل المثال الأزمة الاجتماعية الناتجة عن فجوات الدخول وصعوبات استيعاب المهاجرين الجدد وفساد الحكم والهيمنة الصارخة على الحياة السياسية من جانب أوليجاركية جديدة وعدوانية الأساليب ومنظمات صهيونية متنامية النفوذ.

***

القلق موجود في روسيا ولكن يختلط ببصيص أمل. لم يخطر على بال الرئيس فلاديمير بوتين وحكومته أن حربه أو ما أطلق عليه “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا” سوف تطول إلى هذا الحد. كما أنه، وفي الوقت نفسه أو قبل هذا الوقت، لم يخطر هذا الأمر ببال قيادة حلف الأطلسي وأمريكا على رأسه عند التخطيط لإثارة رد فعل معين عند القيادة الروسية. الآن تتأكد رغبة طرفي الصراع، باستثناء الجماعة الحاكمة في كييف، في تهدئة وتيرته أو تسويته بشكل عاجل لضخامة تكاليفه وضعف مكاسبه. وصل القلق، كما أراه شخصياً، إلى حد جعل الرئيس بوتين يُغامر في مؤتمره الصحفي السنوي المنعقد قبل أيام قليلة عندما فتح باباً من أبواب جهنم ليصف جماعة الرئيس فولوديمير زيلينسكي بـ”العُصبة اليهودية”. مرة أخرى يصل فشل قيادة روسية إلى هذا الحد الخطير، أقصد إثارة الشعب الروسي لليهود.

الجانب الآخر انتابه قلقٌ ليس أقل حدة. إذ صار الحلف الأطلسي يواجه أزمة لعلها بين أهم ما واجه على امتداد أكثر من سبعين عاماً. عادت أوروبا تحت ضغط الإنفاق على حرب لم تُقنع فيها بعد كل الشعوب الأوروبية، لتطالب حكّامها باستقلالية أكبر لأوروبا عن الهيمنة الأمريكية. صادف هذا التيار المتزايد القوة وقوع أزمات سياسية حادة في القوتين الأهم والأكبر، وهما ألمانيا وفرنسا، وفي الوقت نفسه، بزوغ نزعات تمرد في بعض دول اسكندينافيا وبولندا بسبب تباطؤ قيادات الاتحاد الأوروبي في تنفيذ مسئولياتها الأمنية وتراخيها في مواجهة قضية الهجرة وتنظيم علاقات أوروبا بالدول الإفريقية وبالصين وروسيا، بمعنى آخر، امتد القلق في بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا إلى المستقبل القريب جداً، أي إلى “اليوم التالي”.

إقرأ على موقع 180  تفادي الحرب المفتوحة.. بـ"صحوة" أصدقاء إسرائيل!

***

نعود إلى ما يهمنا بشكل مباشر، وهو القلق الناشب في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط إن لم يكن في جميعها. لا شك أن عناصر القلق متنوعة، منها ما هو عالمي وجئت بالإشارة إلى بعضها في السطور السابقة، مثل الترامبوية الزاحفة من واشنطن في السنوات الأربع المقبلة وما تخلّفه من آثار في السنوات والعقود التالية. يكفي أن نذكر الوعود العديدة التي أتحفنا بها ترامب خلال حملته الانتخابية وبعدها، حصيلتها، إن صدقت تحليلاتها، مكانة عظمى لإسرائيل في الشرق الأوسط، ومكانة دنيا للعرب وبالأخص لعقيدتهم غير الدينية أي للعروبة.

من خلال قراءة التوزيع الأحدث لتوازنات القوى، يبدو أن لكل دولة في الإقليم دوراً، بل وفي الإعداد له، بشرط التخلي عن أي التزام قومي، وأظن أن المراقب الحريص والمتأني يستطيع أن يستدل على دول في الإقليم أبدت بالفعل قابليتها واستعدادها لاستقبال هذا “اليوم التالي”

مصدر آخر للقلق كشفت عنه التطورات الأخيرة في المنطقة، وهو الميل المتنامي من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل للاستفادة من رعايتها منفردة أو مجتمعة، عن قرب أو عن بعد، لجماعات إسلامية متطرفة، فأسبغت عليها، لحمايتها من الحكومات العربية والإقليمية الأخرى، صفة الإرهاب. وفي لحظة مناسبة، مُتوقعة أو مُخطط لها، يزحف هذا التنظيم أو ذاك على هذا البلد العربي أو الآخر فيسقط حكومته أو يوحي لها بمزايا الرحيل الآمن فترحل. عندها تدخل إسرائيل منتزعة أراضٍ جديدة ومستولية على مواقع زاخرة بالمواد الخام ومحتلة مناطق تقع بالصدفة أو بالتعمد ضمن خريطة ما يسمى الآن بشرق أوسط جديد.

***

إيران في أشد حالات القلق. الحصار بعد تقليم أهم أظافرها يكاد يخنقها دبلوماسياً وإقليمياً. العراق في قلق أشد من طول انتظار دوره وصعوبات تأقلمه مع متغيرات أكثرها غير عادي ولا مألوف. تركيا في قلق مختلف، فالأكراد يتجمعون في سوريا مع اقتراب الوعد بحل نهائي لقضيتهم والأتراك يحشدون قوتهم لمنع تحقيق هذا الوعد، وفي الوقت نفسه، يستعدون لمهمة استحال تنفيذها لمن حاول من قبلهم، ألا وهي ضبط حال السوريين عن طريق الاشتراك معهم في إدارة شئونهم وحكم بلادهم وإلهائهم عن حلم حياتهم، بذل الغالي والرخيص في العمل من أجل الوحدة العربية، باعتبارها الحل الأمثل لتعددية مجتمعهم. أما الأردن فوحدته يُهدّدها إصرار إسرائيل على دور له في النظام الشرق أوسطي الجديد كوطن بديل، مع العلم أنه من خلال قراءة التوزيع الأحدث لتوازنات القوى، يبدو أن لكل دولة في الإقليم دوراً، بل وفي الإعداد له، بشرط التخلي عن أي التزام قومي، وأظن أن المراقب الحريص والمتأني يستطيع أن يستدل على دول في الإقليم أبدت بالفعل قابليتها واستعدادها لاستقبال هذا “اليوم التالي”.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عن شهور غزة الستة.. و"تفاهم نيسان الجديد"!