إعمار غزة.. ومطحنة الدماء العربية

الإعصار آتٍ إلى الشرق. العربُ قبل غيرهم هم المستهدَفون. وجودياً هذه المرة لا سياسياً فحسبُ. كيف ولماذا؟

الماسّون (macon) ترامب والتلمودي نتنياهو في دائرة واحدة يستعجلان إحراق العالم من أجل “أميركا أوَّلاً” و”إسرائيل الكبرى”. الإعصار الآن أقوى بعشرات الأضعاف من عاصفة “سايكس-بيكو” منذ قرن ونيف. آنذاك طبّق الاستعماران الفرنسي والبريطاني والوكالة اليهودية العالمية وصايا مؤتمر “كامبل بنرمان” (1905-1907). المؤتمر دعا إليه في ذلك الحين “بنرمان” رئيس الوزراء البريطاني الذي وضع أمام القادة الأوروبيين خريطة الوطن العربي وقال لهم: “هذه المنطقة تجمع بين آسيا وأفريقيا، وتستند إلى تاريخ مشترك ولغة واحدة فإذا تركناها يمكن أن تتوحَّد فنخسر مصالحنا، لذا يجب أن نفكِّر دوماً كيف نجزِّئها باستمرار، سياسياً وجغرافياً ودينياً”.

هكذا كان الكيان الإسرائيلي، بعد نحو ثلاثة عقود على سايكس – بيكو، أكبر مشروع استعماري لإدارة مِطحنةِ التقسيم ِوالدم ِوالتخلفِ، رعاهُ البريطانيون والفرنسيون ثم انتقلت الرعاية المباشرة بعد الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة التي أصبحت مركز الرأسمالية الاستعمارية الجديدة، وما زالت حتى الآن.

لا نستطيع من دون هذه الخلفيّة، أن نفهم ما تقوم به حالياً، واشنطن وتل أبيب، وليس صحيحاً أنَّ ما تقومان به، ما كان ليكون لولا وجودُ “ترامب” و”نتنياهو”، فالاثنان يمتلكان مستوى وقاحةٍ أعلى من غيرهما للإعلان عن الأهداف. أما المشروع الاستعماري المتواصل، فتقوده الدولة العميقة في الولايات المتحدة أياً يكن الرئيس، والعقيدة التلمودية في “إسرائيل” أياً يكن الملك بالمفهوم التوراتي. إزاء ذلك كان أولياء السلطة العرب يكتفون بالرد الكلامي، ثمَّ ينخرطون في تنفيذ ما يريدهُ الأميركيون، ومن خلفهم اليهود الصهاينة. ولقد قدَّموا في التاريخ الحديث أبشع نموذجٍ لتواطـُؤِ أهلِ السلطةِ مع مستعمِري بلادِهم. وما زالوا على هذا النحو حتى القِمة الأخيرة في القاهرة. إنها قمة الخديعة الكبرى في الوقت الراهن تحت شعار “الخطة المصرية لإعادة إعمار غزَّة بموافقة السعودية”. كيف ذلك؟

أولياء السلطات العرب، أرادوا الَّا يرَوْا بعد أن سلَّموا نهائياً بالعصر الأميركي-الإسرائيلي، وإلَّا كيف يناقشون خطة لتقسيم القضية الفلسطينية؟ وكيف يتجاهلون أنَّ القمة العربية تنعقد فيما إسرائيل تتوسَّع أكثر فأكثر في جنوب سوريا وكيف يتجاهلون أنَّ إسرائيل تُوسِعُ النقاطَ الخمس التي لم تنسحب منها في لبنان وهي الآن باتت تمتلك خطاً برياً على رؤوس هذه التلال من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا إلى حدود العراق؟

انزلقتِ القمة إلى قبول عزل غزَّة عن فلسطين وقضيتها. تماماً مثلما أراد “ترامب”. كانت خطته تقوم على تهجير الفلسطينيين بالقوة من غزة والضفة إلى مصر والأردن. و”الخطة المصرية” التي أقِرَّتْ في الرياض والقاهرة، تتبنّى في العمق النظرة العقارية لـِ”ترامب” مع فارق أنَّ الخطة المصرية تهدف إلى تهجير داخلي للفلسطينيين في “عقار” غزة، وإلى محاولة تدجينهم خارج فكرة الوطن والدولة وحتماً خارج فكرة المقاومة. تظهر هذه النواحي بوضوح في تفاصيل الخطة التي نُشرت في الإعلام الأميركي قبل الأوروبي والعربي.

تقوم “الخطة المصرية” على ثلاث ركائز:

1-تغيير التوزّع الديموغرافي لأبناء غزة.

2- محو الهوية العمرانية – التاريخية لغزة وجعل العمارة وسيلة سياسية.

3- الربط الخطير بين إعادة الإعمار والإستراتيجية الأمنيّة للسيطرة على غزَّة.

الركيزة الأولى تتضح في مستهلِّ الآليّات التنفيذية، فالخُطة تقترح إقامة مناطق زراعية خالصة على طول حدود غزَّة، تكون خالية كلياً من السكن الاجتماعي، ومن المساكن العائلية، فتتحوَّل في هذه الحالة إلى منطقةٍ عازلة ومكشوفة كلياً، وقابلة للرقابة الأمنية والعسكرية كما يريد “نتنياهو”تماماً. وهكذا تخلو هذه المنطقة من فكرة المجتمع، وتنقلب إلى مجال لتنقلِ العمال والشركات، ولاحقاً للشركات وحدها. وضمن إطار الخطة أيضاً يجري تبديل الانتشار العمراني من أفقي إلى عامودي، فيتم القضاء على الأحياء والشوارع الصغيرة والبلدات الضاحوية وتحلُّ مكانها الأبنية العامودية العالية، وتتخلخلُ بيئة المقاومة، وتزول الذاكرة الاجتماعية المشتركة التي تراكمت تاريخياً عبر عشرات القرون. أمّا الأشدُّ خطورةً فهو ترتيب إعادة الإعمار بحيث ينتقل الانتشار السكاني من قلب غزة إلى الغرب حيث البحر، ما يجعل أبناء غزة مستقبلاً عرضة لحصارٍ من نوع جديد.

الركيزة الثانية تتعدَّى الأولى إلى ما هو أدهى، أي محو الهوية، فتكون المسألة في جوهرها عندئذ تغيير العمارة لا إعادة الإعمار، وتصبح الهوية الغزاوية الفلسطينية مسلوبة التاريخ ومستلبة لنموذج عمراني يوظِّف التخطيط المدني في خدمة التصوُّرات السياسية، ويتجاهل التراث والتاريخ، ويجعل الغزاوي مجرَّد ساكن لا مواطن، ويتفكك بموجب هذه الخطة المجتمع الذي يمكن أن ينتج مقاومة أو يصعب عليه أن يقاوم في بيئةٍ عمرانية مطعونة في هويتها.

الركيزة الثالثة تستند إلى العلاقة بين إعادة الإعمار والإستراتيجية الأمنية. الخطـة تلـتقـي مع “ترامب”و”نتنياهو” في فكرة تهيئة كل السبل للسيطرة الأمنية على غزة من أجل تأطير التهجير الداخلي، وتوفير القدرة على الجانبين المصري والإسرائيلي لضبط ما يسمُّونه “الأمن” في غزَّة. وهذا ما يفسِّرُ وجود المحور الأمني في كل مفاصل الخطة بما يؤكِّد أن إعادة الإعمار هي غطاء خدَّاع لهذه اللعبة السوداء، مثلما هي مِظلـّةٌ يستفيد منها “نتنياهو” لإبقاء قوات الاحتلال في غزة وضرب الحد الأدنى من التسويات وهو حلُ الدولتين.

لا غرابة في أنَّ القمة العربية تجاهلت عمداً كلَّ ذلك. وستدفع الدول العربية أثماناً باهظة نتيجة هذا الأمر. ولا نقول إنَّ القمة العربية لم ترَ ما حولها عندما أعَدَّتْ ما سمَّاهُ “ترامب” بالخطة البديلة، بل نقول إن أولياء السلطات العرب، أرادوا الَّا يرَوْا بعد أن سلَّموا نهائياً بالعصر الأميركي-الإسرائيلي، وإلَّا كيف يناقشون خطة لتقسيم القضية الفلسطينية؟ وكيف يتجاهلون أنَّ القمة العربية تنعقد فيما إسرائيل تتوسَّع أكثر فأكثر في جنوب سوريا التي تنحدر سريعاً نحو بركة دماء ليكون تفكيك سوريا لاحقاً هو الهدف؟ وكيف يتجاهلون أنَّ إسرائيل تُوسِعُ النقاطَ الخمس التي لم تنسحب منها في لبنان وهي الآن باتت تمتلك خطاً برياً على رؤوس هذه التلال من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا إلى حدود العراق؟

قمة القاهرة ناقشت وأقرت خطة سيبتزُّها بها العدوُّ الإسرائيلي، وهذه الخطة لن تنجح في محو الهوية الفلسطينية من غزة، وإن يكن الآتي على المنطقة هو في ذروة الخطورة: من تقسيم بلاد الشام مجدداً وصولاً إلى مصر نفسها، وإلى إدارة مطحنة الدماء في كل بلاد العرب.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  باسيل يقايض الرئاسة بالعقوبات.. وباريس ترفض الشروط المسبقة
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ما بعد سليماني.. حماس تقترب أكثر من إيران برغم الضغوط