خطوة جبّارة، لا بل استراتيجية، أن تنتقل المقاومة الفلسطينية من الدفاع إلى الهجوم وأن تُسيطر على مواقع عسكرية ومستوطنات تحوطها معسكرات من كل حدب وصوب. هذا تطورٌ غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني مع إسرائيل.
خطوة جبّارة، لا بل استراتيجية، أن تنتقل المقاومة الفلسطينية من الدفاع إلى الهجوم وأن تُسيطر على مواقع عسكرية ومستوطنات تحوطها معسكرات من كل حدب وصوب. هذا تطورٌ غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني مع إسرائيل.
كسرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الخطوط الحمر وغيّرت قواعد اللعبة باقتحامها مستوطنات "غلاف غزة"، لتضع إسرائيل في حالة إرباك لم تشهدها منذ 50 عاماً بالضبط، عندما فاجأ الجيشان المصري والسوري الدولة العبرية باقتحامهما خطوط الجبهة في سيناء ومرتفعات الجولان في وقت متزامن مستعيدين زمام المبادرة العسكرية بعد ظهر يوم سبت من 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973.
"كي نتمكن من البقاء في تل أبيب، علينا الصمود في النقب". عبارة قالها دافيد بن غوريون قبل سبعين عاماً ونيف، حدَّد بها "السور أو الجدار" الذي لا بد من إقامته من أجل "الصمود" في "عصب الدولة" ومركز ثقلها الحيوي على كل المستويات.
عندما حدثت ثورة 17 تشرين/أكتوبر 2019، ظهر فجأة لدى اللبنانيين "سوبر هوية"، أو هوية فوق الهويات الطائفية. انفردت تنظيمات طائفية شيعية، وهاجمت المتظاهرين، وهي تهتف "شيعة-شيعة"، لتأكيد الانفصال عن هذه الهوية "السوبر". أصر أكباش الطائفة الشيعية على طابع الجماعة المغلقة. أسدل الستار على الثورة وجاءت الانتخابات النيابية.
في مقالة له في صحيفة "مكور ريشون" الإسرائيلية اليومية، يدعو الكاتب مردخاي كهانا الجيش الإسرائيلي إلى التعامل مع حزب الله عند خط الحدود الشمالية "وما وراءه"، ويضيف "على إسرائيل أن تدرك أن لا مكان للضعفاء في الشرق الأوسط، وأن ضبط النفس ليس قوة، والضعف هو ببساطة ضعف، وهو خطر للغاية".
يلومني كثيرون. هم على حق. أصبحت يا نصري مثل البُوم. لا إشارة في ما تكتب إلى مستقبل قليل.. إلى بصيص حياة.
بكل بساطة، كي لا تكون هناك دولة تُحاسبهم.. فرطوا الدولة، وكي لا يكون هناك قضاء يُعاقبهم.. دمّروا القضاء، وكي ينهبوا ما تبقى من أموال الناس.. كرّسحوا المصارف وحموا ما بقي من هياكلها، وكي يحافظوا على سيطرتهم.. أمعنوا في التحريض الطائفي والمذهبي، فبلغت الانقسامات الطائفية والمذهبية حداً غير مسبوق؛ حافظوا على الأجهزة الأمنية والعسكرية ظناً منهم أن ذلك يُبقي على الاستقرار وسيطرتهم بالتالي.. وغيرُ خافٍ أن هذه الأجهزة لديها مناعة، أو بعضها على الأقل لأسباب مهنية.
أن يكون الفراغ في سدة الرئاسة الأولى سُنّةً، يصير وكأنه من تقاليد الحياة “السياسية” في لبنان، وأن يُصرّوا على التوافق بشروط مسبقة دون التفاوض والتصويت.. فيه إلغاء للسياسة، وهي بالأساس تفاوض مبدأها التسوية التي تُحسم بالتصويت. يريدون أن تكون الدولة فراغاً دستورياً لا ينتظم فيها المجتمع تلقائياً، بل يكونوا هم الذين يجمعون الناس بعد تفريقهم طائفياً وإنهاكهم مالياً وتجويعهم معيشياً، خاصة بعد ثورة 2019 التي رأوا فيها خطراً على سلطتهم. خلقوا الفراغ في الدولة ليكون وسيلة لحكم لبنان. أسلوب جديد في إدارة الدولة.
المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها
ليس الأمر أن ليس في البلد دولة. الدولة الآن هي الفراغ. الحُكم بالفراغ هو ما تفتعله السلطة الحاكمة والمسؤولون عنها. لا شيء يمنع رئاسة المجلس النيابي من الدعوة لانتخابات رئاسية إلا لسبب التواطؤ الذي يكون مبدأه إما وجهة نظرنا أو لا أحد. يعتمد أصحاب هذا التواطؤ على أن جمهور اللبنانيين لن يستجيب لدعوات التحريض فيؤدي الأمر إلى الأسوأ، ومعروف ما هو الأسوأ، فيعتبر ذلك عجزاً عن المواجهة. ويتعالى أصحاب التواطؤ إمعاناً في احتقار شعبهم من مختلف الطبقات والطوائف والمذاهب. هم لا يُسيئون إلى البلد بخلق الفراغ وحسب، لكنهم يسيئون إلى أنفسهم، إذ وضعوا أنفسهم في قفص الإتهام. وما عاد خافياً على أحد هوية من يحكم لبنان أو من بيده السلطة، سلطة الحل والعقد. هل يُريد هؤلاء الإشارة الى أن العداء لإسرائيل ليس الأولوية، بل هي في مواجهة “الشيطان الأكبر”؟ وهذا يشمل الامبريالية الأميركية كما الثقافة المحلية التي لا تروق لهم. ولا مانع عند خصومهم من المواجهة الثقافية ما دامت لا تُكلّف الكثير إلا أنها تنم عن مكبوت الفيدرالية التي صارت ممارسة يومية بين ثقافتين.
ربما تأكد للنخب الحاكمة أن في ذلك فرادة لبنان واستثنائيته؛ عبقرية لا يجاريه فيها أحد على وجه الكرة الأرضية. المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها. مسرح الفراغ شغّال، ويتعيّن عليها حمايته.
كل ما عدا ذلك من أحزاب وتجمعات نيابية وكتل نيابية وأقزام يروحون ويجيئون على المسرح، ما هم إلا “ديكور” يهدف إلى ضمان استمرار المسرحية ذات الأبطال الثلاثة المذكورين أعلاه. ليست المسرحية عبثية إذ أن نتائجها متوقعة، وما هو مزعوم أنه غير متوقع، يتقرر فيه مصير جمهور كبير من المشاهدين في صالة المسرحية من اللبنانيين وغير اللبنانيين، من أصحاب إخراج القيد ومن يفتقدونه حتى إشعار آخر.
ليس في لبنان مواطنون. هم جميعاً رعايا. إذ أن المواطن بالتعريف يُساهم في السلطة بطريقة أو بأخرى، عن طريق الإنتخابات، أو الأحزاب، أو التظاهر، أو ما يؤدي إليه تشكيل الرأي العام. فالمواطنية ملغاة بحكم إلغاء الدولة وتدمير السياسة وممارسة أو محاولة تطبيق مبدأ التوافق لا التسوية. والغرابة في لبنان هي الإصرار على مبدأ لا يمكن تطبيقه والعزوف عما هو متيسر ولوجه.
بين المشاهدين، النسبة بين من يملكون إخراج قيد والذين لا يملكونه متقاربة، وهم حتى الآن جمهور من المشاهدين، لكن وراء الأكمة ما وراءها.
القابضون على السلطة مطمئنون إلى أنه إذا حدث ما لا يريده أحد، وهو متوقع على كل حال، فإن لكل منهم طائفته التي يحتمي بها ويدفعها إلى تشكيل جماعة مغلقة. في أحسن الأحوال ستكون هناك فيدرالية بين الجماعات المغلقة سواء أكان لكل منها أرض متصلة أو لا يكون؛ لكن الاعتماد على “ثقافة” كل فريق طائفي؛ ولذلك الإصرار على مواجهة ثقافية حتى ولو تعلق الأمر بمنع كتاب أو تحريم فيلم سينما أو مقال صحفي، يزعم ذوو الحياء الثقافي أنه كان ذا أثر عليهم؛ على شعورهم الثقافي أو القومي.
مسرح الفراغ لا يدوم وأطراف الطبقة السياسية يعرفون ذلك. ليس في القانون الدولي فراغ. لا فراغ في السياسة. إن لم تملأه السلطة فإن الجماهير قادرة على ملئه وتعبئته كما لم يكن متوقعاً.
لم يأخذ أهل الحل والعقد أن الفراغ وإن أخلوه إلا أن الجمهور يستطيع أن يملأه. حينذاك سوف يقولون “لات ساعة مندم”.
بأي حساب لم تكن الأسابيع الأخيرة مرحلة طيبة في التاريخ الحديث للمنطقة التي نعيش فيها، وككل مراحل التاريخ يصعب جداً تحديد نقطة بداية هذه المرحلة وبطبيعة الحال يصعب أيضاً وربما أكثر التنبؤ بلحظة نهايتها.
في الحادي والعشرين من تموز/ يوليو 2015، نشرت صحيفتا "السفير" اللبنانية و"الشروق" المصرية النص الكامل للحوار الذي أجراه رئيس تحرير "السفير" الأستاذ طلال سلمان مع "الجورنالجي" المصري الكبير محمد حسنين هيكل في الشاليه الذي كان يقيم فيه صيفاً في "الساحل الشمالي". يُعيد موقع "180 بوست" نشر هذه المقابلة نظراً لأهميتها وتكريماً لكل من هيكل في مئويته ولطلال سلمان، في مناسبة مرور شهر على رحيله.
هذا المقال، وهو الثالث في هذه السلسلة، هدفه الإحتفاء بذكرى مرور خمسمائة سنة على مجيء البندورة (الطماطم) إلى بلاد حوض البحر الأبيض المتوسّط.