تنظر الصين إلى العلاقات الاستراتيجية مع روسيا من باب أوسع من الحرب في أوكرانيا. المسألة تتعلق إلى حد كبير بالسعي الصيني الدؤوب إلى تحدي الهيمنة الأميركية على العالم، والانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب.
يقع هذا في جوهر الأسباب التي تمنع الضغوط الغربية من إضعاف الشراكة “بلا حدود” التي أعلنها شي وبوتين قبل أكثر من عامين. الزيارة الأخيرة لبوتين (يوما الخميس والجمعة الماضيين) وما رافقها من حفاوة صينية وما تخللها من مواقف وتوقيع على اتفاقات لتعزيز التبادل التجاري والتعاون في المجال الدفاعي والتركيز على “العمل معاً لدعم الإنصاف والعدالة في العالم”، تُثبت مجدداً أن العلاقة بين الزعيمين “ليست قائمة على زواج المصلحة” وإنما “هي أمر حيوي وضروري على المدى البعيد”، بحسب تقويم أجرته مجلة “الإيكونوميست” البريطانية للرحلة الـ19 لبوتين إلى بكين منذ توليه مقاليد الحكم في روسيا عام 2000.
أوفد الرئيس الأميركي جو بايدن، الشهر الماضي، وزير الخارجية أنطوني بلينكن ووزير الخزانة جانيت يلين إلى بكين، لتحذير الصين من مغبة مواصلة تدفق التكنولوجيا الصينية إلى روسيا. وهناك اعتقاد أميركي راسخ عبّر عنه بلينكن في ختام زيارة استغرقت ثلاثة أيام، وهو أنه لولا الدعم الصيني “لكانت روسيا عانت من حربها” في أوكرانيا.
وبسبب التجاهل الصيني للمطالب الأميركية، فرض بايدن عقوبات مرتين في أيار/مايو الجاري على أفراد وكيانات صينية يُشتبه في تصديرها التكنولوجيا إلى روسيا. ويعتقد مسؤولون أميركيون بأن مواصلة الدعم الصيني لروسيا، يعني أمراً واحداً، ألا وهو أن موسكو تخوض حرباً بالوكالة عن بكين في أوروبا، لزعزعة النظام العالمي، ولذا يجب التحرك بفاعلية أكبر ضد الصين، سواء بفرض المزيد من العقوبات أو محاصرتها أكثر بالأحلاف والتكتلات العسكرية والاقتصادية في المحيطين الهاديء والهندي، وكذلك بالحؤول دون توسيع نفوذها إلى مناطق أخرى من العالم وبينها الشرق الأوسط، وإلا كيف يُمكن تفسير الإلحاح الصيني على ابرام اتفاق أمني ثنائي مع السعودية، من ضمن صفقة متكاملة للتطبيع مع إسرائيل؟ طبعاً الهدف هو مواجهة النفوذ الصيني.
وبرغم احتدام التنافس مع الولايات المتحدة، فإن شي جين بينغ يسير على حبل مشدود، في محاولته تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع روسيا والحفاظ على العلاقات التجارية مع أميركا وأوروبا في آن واحد، بحسب ما خلص إليه الكاتبان في صحيفة “النيويورك تايمز” ديفيد بيرسون وبول سوني.
خلال زيارة الدولة لباريس، في الأسبوع الماضي، رد الرئيس الصيني بشيء من الحدة عندما طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتدخل صيني لدى روسيا لخفض التصعيد في أوكرانيا. وقال شي جين بينغ إن الصين “ليست في أصل المشكلة وليست شريكاً أو طرفاً فيها”. وتضع بكين الحملة الغربية لتصويرها على أنها مسؤولة عن استمرار الحرب، من خلال شراكتها مع روسيا، في سياق “تشويه الصورة والسعي إلى احتواء الصين”.
برغم احتدام التنافس مع الولايات المتحدة، فإن شي جين بينغ يسير على حبل مشدود، في محاولته تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع روسيا والحفاظ على العلاقات التجارية مع أميركا وأوروبا في آن واحد، بحسب ما خلص إليه الكاتبان في صحيفة “النيويورك تايمز” ديفيد بيرسون وبول سوني
وفي آذار/مارس من العام الماضي، زار شي موسكو بعد التجديد له لولاية ثالثة (11 عاماً على رأس الدولة والحزب الشيوعي الصيني)، وقبل هذه الزيارة طرحت بكين مبادرة للسلام في أوكرانيا. لكن كييف ومعها الغرب رفضا الدخول في أي نقاش بشأنها لأن واشنطن والغرب وفولوديمير زيلينسكي كانوا يُعوّلون على نجاح الهجوم الأوكراني المضاد الذي بدأ في الصيف الماضي وانتهى في الشهور الأخيرة بفشل ذريع.
بدوره، اختار بوتين بكين محطة لأول رحلة خارجية له بعد أدائه اليمين قبل أيام، لولاية خامسة، وأيضاً على وقع التقدم العسكري الروسي الذي بدأ الأسبوع الماضي في منطقة خاركيف. واللافت للإنتباه أن بوتين حاول من موسكو أن يضع سياقاً محدداً للهجوم وهو ابعاد مدينة بيلغورود الروسية الحدودية عن مديات المدفعية والصواريخ الأوكرانية التي تدك المدينة منذ أشهر وتتسبب بإصابات كبيرة في الأرواح وبدمار هائل في المنشآت الحيوية. والتقليل من حجم الهجوم قد يكون مقصوداً منه عدم احراج الصين وتصويرها كأنها متواطئة ضمناً مع روسيا. ولا يزال ثمة في الغرب من يذكر بأن بوتين هاجم أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022 بعدما كان التقى شي قبل أسابيع في بكين.
ثم من قال إن الصين لم تتضرر بشكل أو بآخر من الحرب الروسية في أوكرانيا. ذلك أن الغرب عزّز بعد الحرب مساعداته لتايوان تحسباً لغزو صيني للجزيرة، بما يزيد التعقيدات لو نوت بكين فعلاً ضم الجزيرة بالقوة إلى البر الصيني.
إنما من منظور أوسع وفي عالم تتصاعد صراعاته وتحدياته الجيوسياسية، يجد شي جين بينغ، المتهم من قبل الغرب بأنه صاحب طموحات توسعية في الجوار الآسيوي وفي مناطق أبعد، بأن العلاقة مع روسيا تُحدث توازناً مع الغرب. ولهذا تحافظ الصين على علاقات عسكرية مع موسكو، ويجري الجانبان مناورات بحرية وجوية بشكل دوري في المحيط الهادىء، وبلغت إحدى الدوريات البحرية الصينية-الروسية في آب/أغسطس الماضي قبالة ولاية آلاسكا الأميركية، في أقرب نقطة إلى البر الأميركي. وفي آذار/مارس من هذه السنة، أجريت مناورات بحرية مشتركة بين الصين وروسيا وإيران في بحر عمان، وهي مناورات دورية أيضاً منذ العام 2018.
ليست روسيا وحدها هي المستفيد من العلاقة مع الصين. بكين أيضاً محكومة بهاجس اندلاع مواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها في تايوان أو بحر الصين الجنوبي. في هذه الحالة، ستكون الصين في حاجة إلى تدفق النفط والغاز الروسيين عبر الأنابيب، في ما لو قطعت أميركا خطوط الإمداد البحرية عن الصين.
ويبقى أن الهدف الأكبر للصين وروسيا هو خلخلة نظام القطب الواحد. وهو النظام نفسه الذي تعمّه الفوضى بفعل تفجر الكثير من النزاعات التي يستعصي على أميركا نفسها إيجاد حلول لها، من أوكرانيا إلى غزة إلى السودان، إلى تعاظم نفوذ التنظيمات الجهادية في دول الساحل بأفريقيا وأفغانستان وآسيا الوسطى، ناهيك عن التحديات البيئية المتسارعة وزيادة انتشار الأوبئة.