فوز ترامب.. أو زمن التحوّلات و”القياصرة”!

من اللافت للانتباه كيف تحوّل المجتمع اليهودي في إسرائيل نحو دعمٍ واسعٍ لسياسات "القيصر نتنياهو" في هذه المرحلة الثانية من حربه على لبنان، وذلك بدرجة أعلى من دعمه للمرحلة الأولى من حربه ضد غزة والضفة الغربية. بالمقابل، من اللافت للانتباه كيف أنّ المجتمعات العربيّة زاد انقسامها بشكلٍ أكبر اليوم بحيث أصبح صمتها فاضحاً أمام الإبادات والتهجير والتدمير، باستثناء أصوات تعلو بقوّة مساندة حرب "القيصر"، نكاية بإيران وحزب الله وحماس.

وفي هذا السياق، يكفي رصد الأغاني والهتافات، الواضحة بعنصريّتها ضد الفلسطينيين والعرب، والتي يُردّدها مناصرو الفرق الرياضيّة الإسرائيليّة، ومراجعة خلفية الوزراء في الحكومة الإسرائيلية، لمعرفة التحوّلات الكبرى التي شهدها المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة لجهة الاستيطان والفوقيّة، ولقياس نجاح المعركة الإعلاميّة التي جعلت من أحداث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل بمثابة “إبادة جماعيّة” وليس أكثر من سنةٍ من القتل الإسرائيلي الممنهج لآلاف الفلسطينيين.

بالتأكيد يُمكِن ربط هذه التحوّلات المجتمعية العميقة بتحوّلاتٍ تشهدها دولٌ كثيرة، وبخاصّةً في أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة، حيث تتعالى نزعات قوميّة شوفينيّة ويمينيّة متطرّفة.. وأحدى أبرز دلالاتها فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكيّة وفوز الحزب الجمهوري الذي أصبح ترامب يُسيطر عليه كليّاً بأغلبية مجلسي الشيوخ والنوّاب، تحت شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجدّداً”، مع وعدٍ للأمريكيين بأنّهم لن يكونوا بحاجة إلى انتخابات مجدّداً بعد السنوات الأربع لولايته (!).

لكن يُمكِن، بالمقابل، ربط ذلك أيضاً بالتحوّلات التي شهدتها القوى الصاعدة في الشرق الأوسط، كما في إيران الحرس الثوريّ وتركيا رجب طيب أردوغان أو كما في غيرهما من بلدان الخليج. إنّ هذه البلدان أضحت قوى إقليميّة صاعدة قادرة على فرض هيمنتها على الدول المحيطة التي تتعرّض للهشاشة والضعف، وتُجيّش جماهيرها لمشاريعها.

بالمقابل، كيف يُمكِن تفسير ضعف ردّة الفعل لدى الشعوب العربيّة على الإبادة الجماعيّة الممنهجة التي تستمرّ في غزّة؛ سواء فيما يخصّ التضامن الإنسانيّ أو التضامن مع القضيّة الفلسطينيّة التي كانت جوهريّة حتّى في فترات قريبة في تحديد “الهويّة العربيّة”؟ ضعفٌ حتّى بالمقارنة مع التضامن الذي برز لدى أوساط الشباب وغيرهم، وبينهم يهود، في الدول الأخرى. وكيف يُمكِن تفسير ضعف ردّة الفعل الشعبية العربيّة تجاه انتقال حرب التدمير والتهجير والقتل الممنهجين نحو لبنان، البلد الذي يعتبره أغلب العرب منارةً فكريّة وأرض الجمال؟

عندما لا يكون للشعوب وكلمتها وزن، لأنّها خائفة أو مشرذَمة، يكون مصيرها مرهون بصراعات أو توافقات “قياصرة” الدول الكبرى. بالمقابل، عندما تُبرِز تضامنها الداخليّ ومنعتها ومقاومتها وطموحاتها، فحتّى “القياصرة” سيكونون مجبرين على أخذها بعين الاعتبار.. وأكثر من رغبات حكّامها

وتكبر الأسئلة عمّا إذا كان هذا الضعف ناتجاً عن آثار انتفاضات “الربيع العربي” التي جلبت بدل الحرية والكرامة حروباً أهليّة وحروباً بالوكالة بين القوى الصاعدة وغيرها من القوى الكبرى؟ وأنّ أيُّ تحرّكٍ شعبي سيؤدّي إلى اضطرابات قد تأخذ البلاد التي تحدث فيها إلى حروبٍ مماثلة؟ أم نتج الضعف عن انقساماتٍ في الهويّة تجذّرت في هذه المجتمعات، موجّهةً تارةً لتشيطن إيران وحلفائها وتصرّفاتهم وتارةً أخرى موجّهة ضدّ هذا التيار أو ذاك من الإسلام السياسي أو حتّى من الفئات الاجتماعيّة؟ وكأنّ إيران هي “الشيطان” الوحيد بين القوى الصاعدة، وليس حتّى إسرائيل. بل وكأنّه لم يتمّ التلاعب بتيارات الإسلام السياسي أصلاً من قبل القوى الصاعدة أو تُرِكَ لفلسطينيي غزّة أو لأبناء الجنوب اللبناني خيارات مقاومة أخرى؟ هذا مع تجاهل نخر الهويّات الوطنيّة والهويّة العربيّة أيضاً، باللعب على الشرذمة المذهبيّة والإثنيّة والعشائريّة والمناطقيّة، وكأنّنا نعود إلى منطق عصورٍ غابرة؟ أم أنّ الأمر يتعلّق برخاءٍ نسبيّ حصلت عليه أطياف من هذه المجتمعات العربيّة، حيث لا تريد المخاطرة به، بخاصّةً مع تدهور الأحوال المعيشيّة منذ أزمة جائحة الكوفيد 19 وحتّى قبلها، كما حصل لجزءٍ من المجتمع الفلسطينيّ الذي يعيش في الضفّة الغربيّة والذي يبدو متأقلماً مع الاحتلال والاستيطان مقابل بعض الرخاء، ومع سلطة فلسطينيّة أضحت في الواقع تابعة للاحتلال وسياساته برغم مناداتها في المحافل الدوليّة بالدولة التي تُقضَم أسس وجودها.

بالتأكيد هناك كثُر من العرب يعتبرون أنّ إطلاق عمليّة “طوفان الأقصى” كان مغامرةً غير محسوبة وغير مضبوطة. وأنّ الاستمرار لمّدة سنة في معركة إسناد لغزّة، محدّدة الإيقاع والأبعاد، للتوصّل إلى وقف لإطلاق للنار، كانت أيضاً مغامرة غير مجدية، لا سيما وأن لا حراك سياسيّاً أو شعبياً جدّياً ظهر لهذا الإسناد ولوقف الإبادة. ربّما هؤلاء على حقّ. لكن من كان له أن يتوقّع انفلات العدوان الإسرائيلي إلى هذه الأبعاد التي تغيّر كلّ توازنات المنطقة جذريّاً؟ وكذلك سعة الدعم الذي حصل عليه هذا العدوان من رئاسة أمريكيّة ديموقراطيّة ومن أوروبا الغربيّة وكذلك من دولٍ عربيّة؟

هناك شيءٌ مريبٌ في واقع عدم توصّل ما تُسمّى “الجهود الدبلوماسيّة” إلى وقفٍ للحرب، لا على مستوى غزّة والضفّة، ولا حتّى على مستوى لبنان. بالطبع يتمّ ضمن هذه الجهود صوريّاً رفض تهجير الفلسطينيين، ولكن الأصوات لا تتعالى بالقوّة ذاتها تجاه عودة هيمنة إسرائيل العسكريّة على غزّة وتقطيع أوصالها وكذلك تصويت برلمانها على رفض فكرة الدولة الفلسطينيّة وإيقاف التعامل مع وكالة “الأونروا” الأمميّة وباستهزاء إسرائيل بالأمم المتحدة ذاتها، وهي أساس أيّ عملٍ دبلوماسيّ.

إقرأ على موقع 180  إيران: هل يستدرج المحافظون واشنطن بالضغط النووي؟

الآن سيُدشن نجاح ترامب بالانتخابات الأمريكيّة مرحلةً جديدة. وسيكون الواقع عندما سيستلم رئاسته أنّ حكماً عسكريّاً لغزّة وسجناً أصغر لكن أكثر إجاعةً وأقلّ كرامةً لسكّانها، ولواقع وجود آلاف الفلسطينيين الآخرين في السجون. وستكون إسرائيل قد هجّرت فئة اجتماعيّة لبنانيّة كاملة لإفراغ جنوب لبنان وضاحية بيروت واستولت على مياهه. هذا في الوقت التي تفاوض فيه على حصاره اقتصاديّاً وبشريّاً. بما في ذلك ضبط حدود لبنان مع سوريا من قبلها، وتستمرّ في قصف سوريا دوريّاً.. للتسلية (!). كلّ هذا من دون ردٍّ فعليّ لا من الدول ولا من الشعوب العربيّة.

كيف يُمكِن تفسير ضعف ردّة الفعل الشعبية العربيّة تجاه انتقال حرب التدمير والتهجير والقتل الممنهجين نحو لبنان، البلد الذي يعتبره أغلب العرب منارةً فكريّة وأرض الجمال؟

فماذا الذي سيقوم به ترامب “لإيقاف الحروب” كما ادّعى في حملته الانتخابيّة؟ أسيُكمِل مشروع “الاتفاقات الإبراهيميّة” وإيصال طريق الحرير الأمريكي من الهند إلى غزّة؟ أم سيذهب إلى تقويضٍ أكبر للدول التي أعلنها صديقه نتنياهو ملعونة؟ هل سيُعلن حرباً على إيران كما فعل بوش الابن مع العراق؟ أم سيذهب إلى إرساء توازنات أخرى في المنطقة انطلاقاً من اتفاقٍ يجريه مع “قيصر” روسيا، ليس فقط على إيقاف الحرب في أوكرانيا، بل أيضاً على تقاسم النفوذ والمصالح في الشرق الأوسط، على حساب… أو بالتوافق… مع الصين؟ وفي لعبة مصالح دوليّة كبرى كهذه، ليست مصالح الدول الإقليميّة الصاعدة ورغباتها هي الأساس.

عندما لا يكون للشعوب وكلمتها وزن، لأنّها خائفة أو مشرذَمة، يكون مصيرها مرهون بصراعات أو توافقات “قياصرة” الدول الكبرى. بالمقابل، عندما تُبرِز تضامنها الداخليّ ومنعتها ومقاومتها وطموحاتها، فحتّى “القياصرة” سيكونون مجبرين على أخذها بعين الاعتبار.. وأكثر من رغبات حكّامها.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  ترسيم شرق أوسطي على وقع الحدث الأوكراني