توقف العالم بأسره في الأسابيع الأخيرة أمام كلام دونالد ترامب المتكرر (وبعض الأصوات من حوله) حول ضرورة أن تقوم أمريكا بشراء غرينلاند (مستعمرة دانماركية) وقناة باناما وضمّ كندا. يُمكن أنّ نسمّي ذلك تعبيراً عن منحى إستعماري ولو بحلّة جديدة، كون الإستعمار التقليدي لم يختفِ. فما زالت فرنسا وبريطانيا تحتلّ جزراً كثيرة حول العالم وتمارس تمييزاً كريهاً ضدّ أهلها. وأمريكا أيضاً لديها مستعمرات في البحر الكاريبي والهادىء، وقواعدها العسكريّة منتشرة حول العالم وهي جزء من الإستعمار غير المباشر، ناهيك بحجم استعمارها الإقتصادي في أوروبّا وشرق آسيا.
في السابق، حصل الإستعمار نتيجة الحروب والمنافسة بين الدول الأوروبيّة (الصراع بين فرنسا وبريطانيا، خصوصاً في القرنين السابع والثامن عشر، والذي كانت بعض مسارحه في آسيا وأفريقيا وأمريكا الشماليّة؛ التقاتل بين الأوروبيّين داخل أوروبا وخارجها حتّى الحرب العالميّة الثانيّة)؛ وهناك الحروب بين الولايات المتّحدة وأسبانيا في البحر الكاريبي والمحيط الهادىء. لكن حديث ترامب يوحي أنّ ما سنشهده في المرحلة المقبلة ليس تقاتلاً بين أخصام، بل قيام الحليف القوي بـ”السلبطة” على مصالح حلفائه وإضعافهم.
حقيقة الأمر، أن ما قاله ترامب هو استمراريّة للنهج الذي تتبعه أمريكا منذ الحرب العالميّة الثانيّة، حيث أنّ مصلحتها الإستراتيجيّة (سياسيّاً وإقتصاديّاً و..) تتطلّب دائماً إضعاف أوروبّا الغربيّة. فشهدنا في خمسينيات وستّينيات القرن المنصرم إنحسار نفوذ حليفيّ واشنطن الرئيسيّين وهما بريطانيا وفرنسا ووصولًا إلى وضع يدها على معظم مستعمراتهما. وفي العقود الأخيرة، نحن نشهد إصرار أمريكا على إبقاء أوروبّا في خانة التابع، بعكس إرادة الكثيرين في القارّة العجوز الذين يسعون لتوسيع الإتّحاد الأوروبّي وجعله قطباً عالميّاً قائماً بذاته، ولكن النتيجة هي المزيد من التدهور في مكانة أوروبا ومصالحها الإقتصادية. هكذا تجد أوروبّا نفسها عالقة بين المصالح الأمريكيّة التي يفرضها عليها المُهيمن الأمريكي، وبين مصلحتها التي تتطلّب عكس ذلك. هذا التناقض ناتج عن حالة جنون العظمة التي تسيطر على عقول الكثيرين من ساسة أوروبا ومثقّفيها والمبنيّة على قناعتهم الراسخة بتفوّق حضارة البيض الغربيّين (وهذا كان دائماً من أسباب إنجراف أوروبّا نحو الفاشيّة). ومنذ الحرب العالميّة الثانيّة وجدت أوروبّا نفسها مجبرة على أن تتعايش أو تؤيّد مصالح أمريكا حتّى لو أدى ذلك للإضرار بمصالحها.. في هذا الإطار، شكّلت العلاقات الإقتصاديّة الأوروبيّة المتنامية مع كُلٍ من الصين وروسيا مصدر قلق وإزعاج لأمريكا و”وكلائها”، فبدأوا بخلق مشاكل أصابت مقتلاً العديد من الصناعات الأوروبيّة الحسّاسة.
خطاب ترامب الاستعماري ينسحب أيضاً على قضية ترحيل المهاجرين. هذه السياسة اعتمدها سلفه باراك أوباما وخلفه جو بايدن. الفرق أنّ أوباما وبايدن لم يُصرّحا بها علناً لأن قاعدتهما الشعبيّة لا تريد تسليط الضوء على موضوع الترحيل. مع ترامب يختلف الأمر، فقاعدته تطالبه بتسليط الضوء على هذا الموضوع للتظاهر بأنّ المشكلة تحت السيطرة
لننظر إلى الإقتصاد الألماني، على سبيل المثال لا الحصر، والذي كان في حالة يُحسَدُ عليها قبل الحرب الأوكرانيّة. الآن، بات وضع الإقتصاد الألماني في حالة مزرية نتيجة التكاليف الضخمة التي يتكبّدها، إمّا بسبب الدعم الهائل من سلاح ومعونات ذهبت لأوكرانيا بدل أن تُضخّ في الإقتصاد الألماني، أو بسبب غلاء سعر الغاز والنفط والتضخّم. ونضيف أيضاً تبعات سياسة العقوبات الأمريكيّة على الصين وروسيا التي أُجبرت ألمانيا (وأوروبّا عامّةً) على مسايرتها خوفاً على مصالحها مع أمريكا، لكنّها تسبّبت بمشاكل ضخمة لمصالح ألمانيا المتشعبّة معهما وخسائر لا تحصى لشركاتها هناك. أُكرّر، أن سبب ذلك هو مرض العنجهيّة البيضاء الذي يقنع بعض الأوروبيّين أنّ مصلحتهم هي في مسايرة مصلحة أمريكا.
الشيء تفسه يتكرّر في بريطانيا وفرنسا مع الضعف الإقتصادي المستشري فيهما وتنامي العجز وهروب رؤوس الأموال إلى سندات الخزينة الأمريكيّة بسبب أسعار الفائدة المرتفعة في الولايات المتّحدة. لا يمكن تجاهل أنّ جزءًا كبيرًا من ذلك له علاقة مباشرة بمصالح أمريكا التي لا تتماشى مع مصالح هذه الدول. لذلك، تُقرّر دول مثل بريطانيا وفرنسا التضحية بمصالحها من أجل الحفاظ على مصالح الإمبراطوريّة الأمريكيّة (كمن يستجدي طعاماً على مأدبة اللئام).
***
يمكن أن ينجح ترامب في ضمّ غرينلاند بطريقة “لبقة” من دون عمل عسكري. فالمعروف أنّ الكثيرين من أهل غرينلاند يطالبون بالإستقلال عن الدانمارك، وهذا يمكن أن يستخدمه ترامب من أجل إغرائهم بقبول نوع من الشراكة مع الولايات المتّحدة مقابل الحماية ووعود سيكتشفون مع الوقت أنّها كاذبة. هظناك جزر كثيرة في المحيط الهادىء والبحر الكاريبي لها مثل هذه العلاقة بأمريكا، مثل جزر المارشال، وبالاو، وبورتوريكو، وغيرها، والذين غُرّر بهم وعلقوا في شرك أمريكا. هنا يجب الإشارة إلى أنّ الولايات المتّحدة تحتلّ غرينلاند فعلياً ولها قواعد عسكريّة فيها منذ الحرب العالميّة الثانيّة. ومع أنّ الولايات المتّحدة والدانمارك وقّعتا في سنة 1951 على اتّفاقيّة تؤكّد سيادة الدانمارك على غرينلاند، لكن أمريكا حصلت في المقابل على تعهّد بأنّه يمكنها عمل ما تشاء بهذه الجزيرة الضخمة.
ويُخطئ من يعتقد أنّ كلام ترامب واستراتيجيّته هي من بنات أفكاره. ما يتفوه به بشكل فظ وغير ديبلوماسي هو مرآة للنقاشات الإستراتيجيّة التي تحصل بين صنّاع القرار في بلاد العمّ سام. الفرق أن ترامب يُعبّر عنها علناً، بعكس إرادة معظم صُنّاع القرار (الدولة العميقة) بإبقائها سريّة.
لنتذكّر أن ترامب وقبل أن يدخل البيت الأبيض في بداية ولايته الأولى سنة 2017، قام بمهاجمة اتّفاقيّة التجارة الحرّة (نافتا) (North American Free Trade Agreement) بين أمريكا وكندا والمكسيك (دخلت حيز التنفيذ في سنة 1994)، والتي عكست في وقتها مصالح أمريكا في تسعينيات القرن الماضي. بعد عقدين من الزمن، شعرت أمريكا أنّ مصلحتها تتطلّب إلغاء المعاهدة وإجبار كندا والمكسيك على تعديلها وتقديم تنازلات، فكانت حصيلة ذلك اتّفاقيّة USMCA (United States-Mexico-Canada Agreement) في سنة 2020. والآن يُطالب ترامب بتغيير الإتّفاقيّة التي كان هو عرّابها، وذلك لأنّ مصالح أمريكا الحاليّة تتطلّب مزيداً من الإبتزاز لكندا والمكسيك.
***
خطاب ترامب الاستعماري ينسحب أيضاً على قضية ترحيل المهاجرين. هذه السياسة اعتمدها سلفه باراك أوباما وخلفه جو بايدن. الفرق أنّ أوباما وبايدن لم يُصرّحا بها علناً لأن قاعدتهما الشعبيّة لا تريد تسليط الضوء على موضوع الترحيل. مع ترامب يختلف الأمر، فقاعدته تطالبه بتسليط الضوء على هذا الموضوع للتظاهر بأنّ المشكلة تحت السيطرة. ولا يخفى على أحد أنّ الإقتصاد الأمريكي، خصوصاً المتعلّق بالصناعات الترفيهيّة (المطاعم والبارات والفنادق و..) ومجالات الزراعة والبناء والإستشفاء وميادين عمل أخرى كثيرة، تتطلّب عمالة رخيصة لا يُمكن أن يؤمّنها إلاّ قطاع المهاجرين غير الشرعيّين.
هنا علينا أن نتوقّف عند حجم النفاق الهائل لمن يسمّون أنفسهم في أمريكا (ودول العالم عامّةً) بـ”الليبراليّين” الذين يزعمون أنّهم يدافعون عن حقوق المهاجرين بينما هم فعليّاً يُكرّسون سياسة الإستغلال التي تؤمّن لهم أسعاراً رخيصة نسبيّاً لكي يتمكّنوا من الإجتماع في المقاهي والمطاعم والجامعات والفنادق و.. للتداول بأمور الأخلاق والحريّة والعدالة والمساواة والسيادة إلخ.. هم لا يتحدّثون عن حقيقة أنّ الإستغلال هو في صلب قواعد الحياة الغربيّة التي لا يُمكن لهم أن يعيشوا من دونها، لكن يعلو صراخهم عندما يكشف ترامب ما يريدون أن يبقى مستوراً.
***
في الخلاصة، نحن أمام مشهد فيه الكثير من السورياليّة وسخرية القدر و”العدالة الشعريّة”. أمريكا لا يديرها شخص. أمريكا تديرها مصالحها (داخليّاً وخارجيّاً)، التي يتطلّب تحقيقها التضحيّة بكل من يجب التضحية بهم، أكانوا أعداء أم حلفاء. وهناك طبعاً بعض الخلاف حول سبل تحقيق تلك المصالح، لكن عند الطبقة الحاكمة لا شيء يعلو على مصالح أمريكا.
عتدما سُئل المستشار الألماني أولاف شولتز من أحد الصحافيّين عن رأيه بحديث ترامب حول ضم كندا وشراء غرينلاند وقناة باناما، أجاب أنّه “يثيرُ نوعاً من عدم الفهم” بين زعماء أوروبّا. ليس الموضوع أنّ كلام ترامب عسير على الفهم، بل هو تعبير عن منطق الامبراطورية العظمى؛ منطق الجبروت الذي يُعمي البصر والبصيرة، كما يقول القرآن “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ”؟
ليكن الله في عون أهل غرينلاند وكندا وباناما.. والعالم أجمعين.