السويداء تهز ترتيبات برّاك.. وتُعيد مسألة الأقليات السورية إلى الواجهة

كشفت الأحداث الدامية في السويداء، عن مدى هشاشة الأوضاع الأمنية والسياسية في سوريا برغم الاحتضان الغربي والتركي والعربي للنظام الجديد برئاسة أحمد الشرع، وأثارت في الوقت نفسه احتمال الانزلاق مجدداً إلى الحرب الأهلية.. والمجهول.

لغم السويداء، لم يضع فقط مصير الدروز وجيرانهم البدو والنظام الجديد في دمشق على المحك، بل سرعان ما امتدت الشظايا إلى إسرائيل وتركيا وأميركا. ووجد الجميع أنفسهم أمام لحظة هي الأكثر خطورة منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، وأمام تطورات تُهدّد الكثير من الفرضيات والنظريات، التي بنيت في الأشهر السبعة الأخيرة.

فجأة، انتقلت دمشق وتل أبيب من مناخ التفاوض المرعي إقليمياً وأميركياً، إلى المواجهة، عندما قصفت إسرائيل قرب القصر الرئاسي ومقر وزارة الدفاع في العاصمة السورية و160 هدفاً في مناطق أخرى، يوم الأربعاء الماضي، للضغط على الشرع كي يسحب الجيش السوري من المناطق التي دخلها قبل يومين تحت شعار الفصل بين مقاتلي البدو وفصائل درزية محلية في محافظة السويداء.

بدت واشنطن وكأنها أخذت على حين غرة بالأحداث منذ بدئها وحتى ساعة القصف الإسرائيلي، لأنها خشيت أن يؤدي تطور الموقف إلى انهيار الاستراتيجية الأميركية التي تلت سقوط الأسد، وتمثلت بالمسارعة إلى الانفتاح على الشرع ورفع عقوبات مفروضة على سوريا منذ عقود، وصولاً إلى رفع “جبهة النصرة” (التي كانت تتبع يوماً لتنظيم “القاعدة”) عن لوائح الإرهاب، وتشجيع الدول الأوروبية والعربية على مساندة النظام السوري الجديد.

اتكأت الاستراتيجية الأميركية على دفع الشرع إلى التوقيع على اتفاق ينهي حال العداء بين سوريا وإسرائيل، يكون مقدمة لانضمام دمشق إلى الاتفاقات الإبراهيمية. وكانت مواقف السفير الأميركي إلى تركيا والمبعوث الخاص إلى “بلاد الشام” توم برّاك، تفترض أن اختراقاً على المسار السوري-الإسرائيلي، سيتبعه حكماً، اختراق على المسار اللبناني-الإسرائيلي. من هنا، يمكن فهم سبب تركيزه على أهمية الإسراع في التوصل إلى اتفاق أمني سوري-إسرائيلي، يشكل ضغطاً على لبنان.

وتدليلاً على الخوف الأميركي من انهيار كل شيء، سارع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، إلى التخفيف من خطورة الحدث، عازياً الأسباب إلى “سوء تفاهم” بين سوريا وإسرائيل، ومن ثم ممارسة واشنطن ضغوطاً مكثفة للتوصل إلى وقف للنار وانسحاب الجيش السوري من السويداء وتولي فصائل محلية الأمن في المحافظة. وذهبت واشنطن إلى حد الزعم بالحياد، من خلال التأكيد أنها لم تكن على علم مسبق بالغارات الإسرائيلية على دمشق. ثم جاء إعلان أميركا يوم السبت الماضي عن اتفاق لوقف النار بين سوريا وإسرائيل يتضمن دعوة للفصائل المحلية وللبدو لإلقاء السلاح.

ثمة سؤالان ملحان: هل أساء الشرع توقيت تدخل جيشه في السويداء مع ما رافقه من مشاهد مروعة أعادت إلى الأذهان الفظاعات التي ارتكبتها فصائل متشددة في الساحل السوري في آذار/مارس الماضي، ومنها ما هو محسوب على الدولة وأخرى لا تزال تعمل لحسابها؟ وتالياً، هل اعتقد أن إسرائيل، على رغم تحذيرات سابقة من المساس بالأقلية الدرزية في سوريا، ستغض الطرف عن مهاجمة السويداء، كي لا تُعرض مسار التفاوض للخطر؟ وتتفرع عنهما أسئلة من نوع هل يُمكن أن تقبل إسرائيل، تحت أي عنوان كان، دخول فصائل مسلحة إلى المناطق التي تسعى إلى تحويلها إلى منطقة أمنية منزوعة السلاح؟

حذرت مديرة مشروع تركيا في معهد بروكينغز أصلي أيدنتاشباش، من “أن تركيا وإسرائيل تخاطران بالانزلاق نحو المواجهة مع تكثيف حكومة أردوغان خطابها الإسلامي السني والقومي، بينما تسعى إسرائيل إلى الهيمنة العسكرية في لبنان وغزة وسوريا”. ولا تزال تعتبر إسرائيل أن تركيا هي من الدول التي تحمي حركة “حماس”. وهذا ما يثير في الدولة العبرية شبح “إيران سنية” على حدودها الشمالية

قبل أسبوع من انفجار السويداء، جلس توم برّاك إلى الشرع وقائد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) مظلوم عبدي في القصر الرئاسي في دمشق. وعلى مسمع من الشرع، انتقد المبعوث الأميركي “قسد” بسبب التأخير في تنفيذ اتفاق “دمج” القوات الكردية بالجيش السوري الناشىء، وأبلغه صراحة أن ربط الدمج بالحصول على وضعية خاصة للمناطق ذات الغالبية الكردية، كالفيديرالية “أمر لا يصلح في سوريا”.

وبديهي أن يستشف الشرع من الموقف الأميركي، انقلاباً على علاقة الشراكة بين واشنطن والأكراد والممتدة منذ عام 2014. وما ينطبق على الأكراد سينطبق على أقليات أخرى ومن بينها الدروز، فكان قرار الذهاب إلى السويداء.

يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في معرض تبريره التدخل الإسرائيلي، إن السلطات السورية تجاوزت خطين أحمرين، كانت رسمتهما تل أبيب وهما: جعل الجنوب السوري، ومن ضمنه السويداء، منطقة منزوعة السلاح، والثاني التعرض للدروز.

ومنذ سقوط الأسد، دمّرت إسرائيل كل الأصول العسكرية للجيش السوري السابق، وتوغلت خارج منطقة “فك الاشتباك” المتفق عليها بواسطة وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر عام 1974، واحتلت قمة جبل الشيخ وتشن عمليات في عمق يضل إلى مسافة 10 كيلومترات عن دمشق، في ما يصفه الكاتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي بخطة “الدفاع المتقدم” الرامية إلى عدم تكرار هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على “غلاف غزة”.

إقرأ على موقع 180  إيران تقترب من اللاعودة نووياً.. والبديل إتفاق جديد

وينظر نتنياهو إلى ما هو أبعد من دمشق، ويرى في عودة الجيش السوري إلى الجنوب، تمدداً للنفوذ التركي إلى حدود إسرائيل، في وقت يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في “خطاب النصر” على “حزب العمال الكردستاني” الأسبوع الماضي : “هدفنا هو تركيا العظيمة والقوية. مهمتنا هي بناء قرن تركيا بكل مجده. بوصلتنا هي قيمنا القديمة التي تجعلنا ما نحن عليه”.

هذا الكلام قرأت فيه مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية أن “أردوغان يلقي التحدي أمام القوى الأخرى في الشرق الأوسط ــ إسرائيل وإيران السعودية ــ التي تطمح إلى الهيمنة الإقليمية”.

وحذرت مديرة مشروع تركيا في معهد بروكينغز أصلي أيدنتاشباش، من “أن تركيا وإسرائيل تخاطران بالانزلاق نحو المواجهة مع تكثيف حكومة أردوغان خطابها الإسلامي السني والقومي، بينما تسعى إسرائيل إلى الهيمنة العسكرية في لبنان وغزة وسوريا”. ولا تزال تعتبر إسرائيل أن تركيا هي من الدول التي تحمي حركة “حماس”. وهذا ما يثير في الدولة العبرية شبح “إيران سنية” على حدودها الشمالية.

وإلى العامل الإقليمي، هناك العامل الداخلي في إسرائيل التي يظهر أنها لم تعد بعيدة عن الانتخابات المبكرة مع انفضاض أحزاب حريدية عن الائتلاف الحكومي بسبب قانون التجنيد. ويهم نتنياهو أن يكسب تأييد الأقلية الدرزية في الأراضي المحتلة عام 1948، من طريق تصوير نفسه بأنه حمى الدروز في سوريا من بطش نظام أحمد الشرع.

وعلاوة على ذلك، حتى لو نجحت واشنطن في ترميم مسار المفاوضات، فإن نتنياهو سيكون في موقع أقوى مما كان عليه قبل 16 تموز/يوليو، تاريخ استعراض القوة الإسرائيلي، بينما النظام في سوريا الذي يواجه أخطر تحد له منذ سبعة أشهر، سيكون في موقف أضعف. فأحداث السويداء يتردد صداها لدى الأقلية الكردية في شمال شرق سوريا، ومعها يكبر السؤال عن قدرة النظام فعلاً على التوصل إلى تفاهم مع الأقليات بالحوار، وكبح جماح الفصائل المتشددة، إلا إذا كان ما حصل في الساحل السوري ومحافظة السويداء وتفجير كنيسة مار الياس في دمشق له تتمته الحتمية مع الأقلية الكردية، في سياق مشروع وظيفته ترهيب جميع الأقليات السورية.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  من ثقب أوكرانيا.. الحرب والمناخ والإقتصاد والمونديال!