أسابيع تُغيّر وجه المنطقة.. ماذا عن الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا؟

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان معظم سكان المنطقة في أسرّتهم، وكان الطقس خريفيًا جميلًا، ولم يكن أحدٌ يقدّر أنّ فجر هذا اليوم سيغيّر العالم، ويبعثر الخرائط الجيوسياسية في المنطقة. منذ تلك اللحظة التاريخية، انقلبت المنطقة رأسًا على عقِب. كشّرت إسرائيل عن أنيابها، وأعلنت أنها أمام تهديد وجودي. وبدأت المبارزة المنتظرة، ووضع كل فريق لاعبيه الأساسيين في الملعب الذي تحوّل إلى بحر من الدماء والدمار والتوحش والقتل.

في السابع عشر من أيلول/سبتمبر 2024، وقبل حلول الذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر/تشرين الأول، الساعة تشير إلى الثالثة والربع عصرًا ، كان معظم اللبنانيين في بيوتهم،، إما يشربون الشاي، ويشاهدون آخر الأخبار على شاشات التلفزة، وإما يرتاحون في قيلولة ما بعد الغذاء، حين حلّت كارثة غير مسبوقة على المقاومة في لبنان. بدأت أجهزة “البيجرز” في الانفجار في لحظة واحدة، كانت الدقائق التالية للحدث، عبارة عن يوم قيامة مصغّر.

في صباح الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر نفسه، كنتُ- كما أهالي الجنوب- ما زلتُ نائمًا، عندما بدأت أصواتُ الجيران تصلني ممزوجةً بقصف عنيف وكثيف ومستمر من الطائرات الحربية الإسرائيلية، التي زنّرت قريتنا بحزام مفاجئ من نار ولهب، تيقنتُ وقتها أننا دخلنا في مرحلة جديدة، تركتُ الديار وكل العائلة متوجهين إلى بيروت، فوجدتُ أنّ معظم أهالي الجنوب قد أخذوا القرار نفسه، وبدأت رحلة الحشر على أوتوستراد الجنوب، وصولًا إلى جسر الأوّلي.

في السابع والعشرين من هذا الأيلول الأسود ، السادسة وثماني عشرة دقيقة عصرًا، الضاحية الجنوبية لبيروت تنزاح من مكانها، الهزة الأرضية شعر بها أهالي العاصمة، وجزء من جبل لبنان. أصوات انفجارات غريبة ومتتالية استمرت لأقل من دقيقة. طائرات الأف 15 الأميركية تلقي ثمانين طنًا من القنابل الأميركية الحاقدة والخارقة للتحصينات على المكان الأكثر تحصينًا في الضاحية، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.. شهيدًا.

***

بدأتِ الحربُ تأخذ منحًى مختلفًا. في الأول من تشرين أول/أكتوبر، يُعلن رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي بداية الحرب البرية على لبنان، بهدف احتلال الجنوب. يقول بنيامين نتنياهو إنه من خلال نتائج هذه الحرب يسعى إلى تغيير الشرق الأوسط، وأنّ العائق أمام هذا المشروع لم يعد موجودًا. ثم يقول: “نحن نغيّر وجه العالم، بعد أن قلنا إنّنا نغير وجه الشرق الأوسط”. ولكن كان للمقاومين على الحافة الأمامية رأي آخر، فكانت ملحمة بطولية سيحكي التاريخ عنها طويلًا. فعلى مدى سبعة وخمسين يومًا، وبعديد يقارب السبعين ألف جندي، لم يستطع العدو احتلال قرية واحدة من الجنوب بشكل كليّ.

في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تنتهي الحرب باتفاق هشّ يوقف إطلاق النار مرحليًا. كان أهالي الجنوب والضاحية والبقاع يلملمون أشلاءهم، ويبحثون بين الركام عن شهدائهم، وذكرياتهم، ليأتي الخبر هذه المرة.. من الشام: انهيار الجيش السوري، وسيطرة الجماعات المسلحة على حلب، ومن ثم على حمص، وبعد بضعة أيام، وصلوا إلى دمشق.

في الثامن من كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، يسقط نظام بشار الأسد، ويستولي مسلحو “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبو محمد الجولاني على القصر الرئاسي في دمشق.

***

لأنّ المصائب لا تأتي فرادى؛ في فجر يوم الجمعة الثالث عشر من حزيران/يونيو من العام 2025، كان الوفد الإيراني يُجهّز حقائبه للسفر إلى مسقط، ليخوض صباح الأحد، جولة جديدة من المفاوضات مع مبعوث الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف وفريقه، يستفيق العالم على خبر بداية الحرب المنتظرة منذ ثلاثة عقود بين إسرائيل وإيران. تقضي إسرائيل على معظم القيادة العسكرية والأمنية الإيرانية، وعلماء نوويين، وتضرب منظومة الدفاع الجوي، ومنصات لإطلاق الصواريخ الباليستية، وتستبيح أجواء الجمهورية الإسلامية من شرقها إلى غربها. العالم يُصاب بالذهول. بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، تستفيق إيران من هول الصدمة، وتبدأ ردها على تل أبيب والمدن الإسرائيلية، وتبلي بلاءً جيدًا. في اليوم الحادي عشر، تشعر واشنطن بحاجة الموقف، فتدخل الحرب. تقصف مفاعلات نطنز وأصفهان وفوردو، وتقول إنّ البرنامج النووي الإيراني أصبح من الماضي. تردّ إيران بقصف قاعدة العديد الأميركية في الدوحة. يطلب دونالد ترامب وقف الحرب.. فتتوقف.

يتغيّر وجه الشرق الأوسط بأسابيع قليلة، وما كان قائمًا لعقود، انهار في شهور معدوداتٍ كئيبة ، وبعدما اعتقد أهل المنطقة أنّ مشروع “إسرائيل الكبرى” صار حلمًا من الماضي، عاد ليتصدّر المشهد الجيوسياسي، بعدما بدا أنّ محور المقاومة قد انهار دفعةً واحدة أمام التفوق التكنولوجي والاستخباري الإسرائيلي- الأميركي. فهل تحوّلت إسرائيل إلى قوةٍ مهيمنة وحيدةٍ على الشرق الأوسط الجديد؟

***

بعد كل هذه المشهدية المرعبة، يحضر السؤال الأصعب: هل بإمكان إسرائيل أن تصبح قوةً مهيمنة، بعدما فقَدَ أعداؤها إمكانية هزيمتها عسكريًا، أو ردعها، أو إيقاف اندفاعتها؟ وبعد الانتفاخ غير المسبوق الذي شعر به الجميع، من بنيامين نتنياهو، والجيش الإسرائيلي، إلى أصغر مستوطن في الكيان. وهل أنّ حربًا وحيدة، ولو كانت قاسية في نتائجها، تستطيع تغيير وجه منطقة معقّدة وتبعثرُ تاريخها إلى هذا الحد؟

عند الكلام على قوة مهيمنة، لا نقصد قوة عسكرية متفوقة وساحقة فحسب، بل منظومة معقّدة ومتشعّبة من العوامل الرئيسة التي تخوّل هذه الدولة أو تلك أن تتمتع بمواصفات القوة المهيمنة والدائمة. فما هي تلك العناصر، وهل تنطبق على إسرائيل؟

عن فكرة القوة المهيمنة كتب البروفيسور ستيفن والت مقالة في حزيران/يونيو من العام 2025 في مجلة “فورين بوليسي”، مُحدّدًا بعض شروطها، ومنه سنستعين بأهم النقاط التي وردت في المقال، ونزيد عليها ما نراه يخدم فكرة إمكانية تحقيق العدو حلم إسرائيل الكبرى، من عدمه.

وقبل الدخول في نقاش ما إذا كانت هناك إمكانية لأن تكون إسرائيل قوة مهيمنة إقليمية، لا بدّ من تعريف لهذه القوة: هي الحالة التي تكون فيها الدولة هي “القوة العظمى الوحيدة في إقليم معيّن”، بحيث “لا تستطيع أية دولة أخرى – أو مجموعة دول – صدّها، أو مواجهتها”.

ومع حاجة القوة المهيمنة إلى عدد من العناصر والمميزات التي تجعلها تمتلك هذه الصفة، يحضر عامل مهم، وهو المحافظة على القوة المهيمنة، وترسيخها، والتحلي بقدر من ضبط النفس، واقتناع محيطها أنها أصبحت قوة مهيمنة فعلية، والتسليم لها بذلك، كما حصل مع الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، عندما تبنّى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت سياسة “حسن الجوار” في أميركا اللاتينية. والأهم من كل ذلك، أن تكون هذه القوة، تكون ذاتية الموارد والحضور والحماية، وأن لا تحتاج إلى دعم خارجي دائم، للمحافظة على وضعيتها، وللسيطرة على محيطها.

إقرأ على موقع 180  السنوار.. قسّامي يهزم "إسرائيل" حياً وشهيداً

***

يقول ستيفن والت “إنّ القيود الجغرافية والديمغرافية، تمثّل أحد العوامل الرئيسة التي تقف حائلًا أمام هذا الطموح الإسرائيلي”. نستنتج نحن من ذلك أنّ مساحة فلسطين المحتلة تبلغ حوالي عشرين ألف كيلومتر مربع فقط، مطوّقة بمحيط معادٍ شعبيًا، ويبلغ عدد سكانها من اليهود حوالي سبعة ملايين مستوطن. يقابل ذلك عالم عربي كبير، وامبراطوريتان سابقتان: تركيا وإيران بمساحات جغرافية تقارب قارة بحدّ ذاتها. وبعدد سكان يقارب النصف مليار إنسان، وجميعهم ما زالوا يعتبرون إسرائيل عدوًا حقيقيًا. ثم تحضرُ عوامل ثلاثة تشكّل عوائق فعلية لتحقيق هذه الرغبة، أوّلها – بحسب والت – القوة الاقتصادية، فالاقتصاد الإسرائيلي يمثّل حصةً غير متناسبة من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، على الرغم من حجمه المهم (حوالي 500 مليار دولار) ولكنّها غير قادرة على إعادة تشكيل اقتصادات المنطقة منفردة، أو أن تكون منافسة حقيقية لاقتصادات تركيا والسعودية، وحتى إيران في حال رفع العقوبات عنها.

والعامل الثاني هو الافتقار إلى التحالفات البينية، فإسرائيل تُعدُّ عدوًا لكامل المنطقة وشعوبها. وهي تفتقر إلى حلفاء حقيقيين في المنطقة، بل هي تعيش في محيط معادٍ كليًا (نموذج مونديال قطر خير دليل على ذلك) وكما يقول المحلل الإسرائيلي روبن بن يشاي إنّ اسرائيل “طبّعت مع حوالي ثلاثة آلاف شخص من عشرات ملايين العرب، وهم الفئة المستفيدة من هذه العلاقة. وباقي العرب هم أعداء”.

ويتحدد العامل الثالث، بافتقاد اسرائيل إلى القوة الناعمة، فالكيان الإسرائيلي يعتمد فقط على القوة العسكرية (القوة الصلبة)، المعتمدة بالأصل على الترسانة الأميركية الغربية، من دون الاعتماد على القوة الناعمة، التي هي مؤثّر فاعل وحاسم في السيطرة والهيمنة، بل إنّ كل السردية التي روّج لها الغرب عن دولة ديموقراطية في محيط ديكتاتوري، اندثرت بعد حرب السنتين الأخيرتين، وأصبح الكيان يوسم في كل المعمورة، بدولة الإبادة الجماعية، والتمييز العنصري، وزعيمها اُدينَ من أرفع منظمة حقوقية في العالم (المحكمة الجنائية الدولية) بكونه مجرم حرب.

أما العامل الرابع والأهم فهو الاعتماد البنيوي على الولايات المتحدة الأميركية. فإسرائيل تعتمد بشكل كامل على الولايات المتحدة في كل حركتها. بدا ذلك واضحًا في الحروب التي خاضتها منذ السابع من تشرين/أكتوبر، إن عبر التسليح، أو عبر الغطاء السياسي والديبلوماسي (استخدام حق النقض الفيتو أكثر من خمس مرات في السنتين الماضيتين دفاعًا عن إسرائيل)، وضغط واشنطن على المحكمة الجنائية الدولية لحماية بنيامين نتنياهو. وبحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية، فإنّ إسرائيل تسلمت 940 شحنة (طائرات، وسفن) محملة بالمعدات والأسلحة، نقلت فيها أكثر من 90 ألف طن من الأسلحة. وشهد العالم كيف أنّ واشنطن هي التي أوقفت حرب إيران بعد تدخلها المباشر بقصف المفاعلات النووية، وحرب غزة بعد سنتين على بدايتها.

لذلك، عندما نتكلم على الهيمنة الإقليمية، معنى ذلك أنّ الدولة المهيمنة تحتاج الى موارد عسكرية ضخمة، وإلى عمق استراتيجي واسع، وإلى ديموغرافيا وازنة، وإلى قدرة على التحكم في المحيط الإقليمي. وهنا يحضر عامل داخلي مؤثّر ومعيق، وهو عدم وجود استقرار داخلي في الكيان، فانفجار الداخل الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، هو عامل أرق مزمن لا يفارق قادة الاحتلال والمستوطنون، والخلافات الداخلية بين العلمانيين والمتدينين (الحريديم) وبين الإشكناز والسفرديم، تشغل حيّزًا وازنًا أيضًا من مساحة عدم الاستقرار الداخلي، ولو أنه أقل تأثيرًا مما قبله. فكيف تستطيع دولة صغيرة الهيمنة الدائمة على منطقة شاسعة ومعادية، وهي تعاني من اضطرابات داخلية مستمرة؟ ولا سيما أنها منخرطة في الوقت نفسه في منافسة إقليمية شرسة مع كلٍّ من إيران وتركيا ومصر، ولن تقبل القوى الإقليمية التاريخية بدور اسرائيل المهيمن، ولو كانت هذه الدول نفسها غير منخرطة في تحالفات بينية. إضافةً إلى أنّ وجود مقاومة جماهيرية شعبية مسلّحة ومتجذرة في بعض الدول، وعداء مستحكم في البعض الآخر، يُسهم في تقويض هذا الطموح.

***

وماذا عن محدّدات القوة لدى الدولة العبرية؟

يتمثّل ذلك في التفوق العسكري والاستخباري، وفي اقتصاد معرفي عالي القيمة متمثلًا بالقطاع التكنولوجي، وميزانيات عسكرية متصاعدة، ودعم غربي مستمر (رفع كلفة المواجهة معها بسبب تدخل الولايات المتحدة المباشر في أي نزاع) والسلاح غير التقليدي، وضعف الدول العربية المحيطة، وغياب التوازن الإقليمي.

هنا يحضر شاهدان أميركيان على ضعف فرص تحقيق الحلم الإسرائيلي:

الأول، ما قاله وزير الدفاع السابق في إدارة الرئيس جو بايدن، لويد أوستن في في خطابه في منتدى “رونالد ريغان للدفاع الوطني” في كانون الثاني/يناير من العام 2024، أي بعد شهرين على بداية الحرب في غزة: “إسرائيل قد تفوز تكتيكيًا، ولكنها ستخسر على المستوى الإستراتيجي”.

الثاني، إدلاء السفير الأميركي في تركيا، والمبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب إلى سوريا، توماس برّاك، بعدد من التصريحات التي عبّر فيها عن اندفاعة نتنياهو، وعدم اعترافه بحدود سايكس بيكو، ليتوصل إلى خلاصة يقول فيها: “إسرائيل لا تستطيع مواجهة مليار مسلم، ولا كبح معاداة السامية عنها في العالم”.

في النتيجة، وعلى الرغم من خسارة كبرى أصابت قوى المقاومة في المنطقة، ووجود فراغ وتناقض بين الدول الوازنة فيها حاليًا، وبناءً على ما سقناه من أسباب؛ فإنّ إسرائيل، ستكون قوةً مسيطرة، ولكن لن تبقى سيطرة مطلقة أو ثابتة، لأنها لا تستطيع تحقيق شروط الدولة المهيمنة طويلة الأمد، لأنها ستظل دولةً صغيرة جغرافيًا، ولن تستطيع ملء المساحات الجغرافية الكبيرة، عبر الوجود الاحتلالي الفيزيائي المادي، الذي تغطيه حاليًا بالتكنولوجيا، بسبب النقص الهائل في العامل الديموغرافي، ولأنها ستبقى كيانًا معزولًا ومكروهًا من شعوب المنطقة قاطبةً، ولأنّ التوازنات الدولية على مرّ التاريخ، هي توازنات متحركة، غير ثابتة.

الخلاصة، صحيح أن اسرائيل كيان عسكري قوي، لكنه يعاني من ضعف سياسي، ومن مقبولية عالمية، وأصبح شبه معزول نفسيًا واجتماعيًا، إضافةً إلى أنه دائم الاعتماد على طرف خارجي في استمرار بقائه ضمن معادلة القوة والوجود.

 

Print Friendly, PDF & Email
طارق عبود

أستاذ جامعي وباحث، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  لبنان: "حرب إلغاء" حقيقية.. مكانك راوح حكومياً!