المهم أيضًا هو دراسة إنعكاس كل هذا على الدول المحيطة بفلسطين، وبينها الأردن، الذي عاش طوال السنوات الماضية على وقع الخوف من فكرة الوطن البديل، كما رأت كل من دولة الأردن ودولة مصر – سواء أعلنتا ذلك أم لم تعلناه – في محاولات تطبيع دول عربية جديدة مع “إسرائيل” محاولة للقفز فوق دورهما في عملية السلام والتسوية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، ولهذه الخطوات فاتورة قد تكون باهظة على هاتين الدولتين.
شبح الوطن البديل
قبل قرابة العشرين عامًا، بدأت المخاوف في الأردن من شبح “الوطن البديل” وهي فكرة تقوم على توطين الفلسطينيين في الأردن، وتأمين دولة يهودية خالصة للصهاينة في الداخل الفلسطيني؛ حينها نحا تيار “الحرس القديم” في الأردن نحو فكرة التقارب مع “حماس” والمقاومة، وأن يقوم الأردن بتنويع خياراته، وأن لا يكتفي بوضع كل بيضه في سلة واحدة.
لم تتم الإستجابة لفكرة “الحرس القديم” حينها، ما أدى إلى حصر دور الأردن في القضية الفلسطينية بالتواصل مع السلطة الفلسطينية والتنسيق معها.
بعد سنوات قليلة من محاولات “الحرس القديم” في الأردن في الدفع نحو التقارب مع المقاومة الفلسطينية، بدأ ما يسمى “الربيع العربي”. حينها استجاب الأردن الرسمي لفكرة “الحرس القديم”، ولم يتدخل الجيش الأردني في مواجهة الجيش السوري، برغم أن مشاعر فئات واسعة من عوّام الشعب الأردني المتأثرة بأفكار “الإخوان المسلمين” في البلد، كانت تناصر ما تسمى “الثورة السورية” في مواجهة الدولة السورية. هذا الأمر كان يدركهُ تيار الدولة السورية وحلفاء دمشق؛ ومن يتتبع خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خلال الأزمة السورية يلمس الخلاصة الآتية “الأردن ليس حليفًا حتمًا، لكنه ليس عدوًّا أيضًا”، وذلك خلافًا للموقف التركي، على سبيل المثال، الذي تورط في سوريا.
اتخذ الأردن موقفًا مختلفًا عن حلفائه بالأزمة السورية منذ العام 2011، وتمكن من إيجاد هامش جيد للمناورة والحفاظ على مصالحه، وقناعاته الجيوسياسية الخاصة، وحصد ثمار ذلك بالدور السياسي المعقول وبالأمن الذي تحقق للبلد برغم الأزمات المحيطة
جنى الأردن الرسمي ثمارًا كثيرة جراء استجابته لموقف “الحرس القديم” وعدم تدخله بالأزمة السورية، فبعد أن تمكن من تأمين حدوده قدر الإمكان، كان للأردن دوره في إنجاح اتفاق خفض التصعيد في سوريا، من خلال التعاون مع روسيا وأميركا.
في كل بلد في العالم منذ عشرين عامًا أو يزيد، بدأت تظهر ملامح “الحرس القديم” (“المحافظون”) في مواجهة “الحرس الجديد” (“الليبراليون”)، والأردن شأنه شأن باقي الدول، ولقد أثبتت الأزمة السورية صوابية رأي “الحرس القديم” الأردني، فهل يستمع الأردن الرسمي اليوم لنصائح “الحرس القديم” بالتقارب مع المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن يحمي الأردن من فكرة الوطن البديل، ويجعله لاعبًا بصورة أكبر بكثير مما هو عليها الآن في ملف القضية الفلسطينية؟
المقاومة.. والدوران الأردني والمصري
من المؤكد أن المقاومة الفلسطينية أثبتت اجتهادها وجدارتها ونحن نراها تتقدم وتُطوّر أساليبها في القتال طوال السنوات الماضية، لكن ذلك لا يعني النظر إلى عملية “طوفان الأقصى” بمعزل عن المتغيرات الحاصلة في العالم، وعلى رأسها تراجع نظام القطب الواحد، الذي يُعزز من حضور أميركا راعية “إسرائيل” ونهوض عالم متعدد الأقطاب، وهو النظام العالمي الجديد الذي يرى في الأطلسية عدوًا له، وما “إسرائيل” إلا ذراع الأطلسية في المنطقة، وإن كانت كل من روسيا والصين لا تتطلعان إلى تدمير إسرائيل، إلا أنه ثمة تقاطع بين مصلحة مشروعهما وبين تحجيم الدولة العبرية فعليًا.
لذا فإن عملية “طوفان الأقصى” ما هي إلا تمظهر جديد لتراجع نظام القطب الواحد، ولا تخفى هنا أهمية وفوائد ما جرى في فلسطين يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي على روسيا ربطاً بالحرب الأوكرانية، وبالتالي تشتت الدعم الغربي بين “إسرائيل” وأوكرانيا.
كما أنه لا تخفى أهمية ما جرى في فلسطين وانعكاسه على دور الصين في المنطقة، فإذا كان ما جرى سيُعطل أو ربما يُجمد اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي، فإنه بالتالي سيُعزز بشكل أو بآخر الاتفاق السعودي الإيراني الحاصل برعاية صينية، وهو الذي سيعزز مشروع العالم متعدد الأقطاب.
في ضوء ما سبق، ثمة فرصة جديدة للأردن ومصر في العودة إلى الواجهة بشكل أكبر في ملف القضية الفلسطينية، واليوم وبعد عملية “طوفان الأقصى” ثمة فرصة جديدة للأردن بأن يعود ويفكر بمنطق الحرس القديم لجهة الانفتاح على جميع اللاعبين في القضية الفلسطينية والتقارب مع المقاومة الفلسطينية بصورة تُمكّن الأردن من الحفاظ على مصالحه، وحماية البلد من خطر الوطن البديل.
قبل عام أو كثر قالت شخصية فلسطينية عامة من الداخل، في ندوة سياسية أقيمت في العاصمة عمّان، بأن مشروع الوطن البديل أصبح بعيدًا فلا تخشوه، إلا أنها اضافت “لا تخافوا منه واللي بخاف البعبع بطلعله”.
لكن بعد عملية المقاومة الفلسطينية الأخيرة في فلسطين، أصبح البعبع خائفًا من التوسع أكثر ومنشغلًا في نفسه، وهو ما يصب في مصلحة الأردن، وعلى الأردن استغلال هذه الفرصة التاريخية.
صحيح أن الأردن هو حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية والغرب، ولا يمكننا إغفال ذلك، لكن البلد عاش في السنوات الماضية على وقع المخاوف التي تشغل بال أي بلد يتخذ من أميركا حليفًا له، وتتلخص في تغليب أميركا مصلحتها على حساب مصالح حلفائها، وهذا الشعور يراود الدول الأوروبية حيال تعامل أميركا مع الأزمة الأوكرانية، وكان جليًّا بالنسبة للأردن قبل ذلك عندما اعترفت أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل في أواخر العام 2017.
في ضوء ما سبق، اتخذ الأردن موقفًا مختلفًا عن حلفائه بالأزمة السورية منذ العام 2011، وتمكن من إيجاد هامش جيد للمناورة والحفاظ على مصالحه، وقناعاته الجيوسياسية الخاصة، وحصد ثمار ذلك بالدور السياسي المعقول وبالأمن الذي تحقق للبلد برغم الأزمات المحيطة.
كذلك يمكن للأردن اليوم أن يتخذ موقفًا حيال المقاومة الفلسطينية مختلفًا عن حلفائه، وأن يتمكن من إيجاد هامش للمناورة والحفاظ على مصالحه، التي ثبت أن الحلفاء التقليديين لن يحافظوا عليها إن تعارضت مع مصالحهم، وبذلك سيحصد الثمار وسيبدد كل المخاوف.