ثمّة دلالة واضحة في هذا السياق لكلام بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن دوافع حكومته لوقف العمليات الحربية في لبنان وإبرازه حجّة التفرّغ للاستعداد لمواجهة إيران النووية.
وتُشير معطيات جيوسياسية دقيقة إلى أسباب عدّة وراء خسارة إسرائيل، أوّلها أنّ جيشها العائد إلى قطاع غزّة بعدما أخرجه آرييل شارون من “كيس العقارب” هذا في العام 2005، يغرق اليوم في مستنقع يصعب الخروج منه وذلك لغياب أيّ أُفق سياسي إسرائيلي أو تصوّر لحلٍّ في “اليوم التالي” لحرب الإبادة التي جعلت القطاع على مدى 14 شهراً مكاناً غير قابل للحياة.
أمّا السبب الثاني، فهو أن الإسرائيليين في محاولتهم ترميم الردع يتمسّكون بأسلوب “Escalation dominance”، أي “السيطرة بالتصعيد”، وهذا يعني أنهم إذا تعرّضوا لضربة ما، يردّون على الطرف المواجه بأقوى منها لتحقيق السيطرة بالتصعيد..
وقد لوحظ في عملية تبادل الردود بين إيران وإسرائيل في نيسان/أبريل الماضي، أنه لم يكن هناك سيطرة إسرائيلية بالتصعيد بالنظر إلى الحاجة إلى مساعدة أميركا لإسقاط الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية.
وفي المواجهة الدائرة مع المقاومة والمجتمع المدني الفلسطيني في قطاع غزّة، يتأكد أن الفاعلية الإسرائيلية في تدمير القرى والمدن والبنية التحتية، غير ممكنة من دون تدفّق السلاح والذخائر الأميركية وتأمين المساعدة اللوجستية.
كلّ ذلك يُعيدنا إلى موضوع الردع الإسرائيلي الذي بات ضعيفاً إلى درجة تستدعي التدخل العسكرى الأميركي الذي ظهر بوضوح ردّاً على هجوم 7 أكتوبر الفلسطيني، وكذلك على الهجوم الإيراني على إسرائيل في نيسان/أبريل الماضي.
نتنياهو لا يريد إدارة جديدة لغزّة، بل تطهيراً عرقياً كاملاً عبر القضاء على كتل سكانية كبيرة وجعل البيئة غير قابلة للعيش، واعتماد سلاح الجوع والتجويع لدفع الفلسطينيين إلى الخروج من القطاع. والأهم من ذلك، اعتماد حرب الإبادة الجماعية
***
حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وانقلاب التوازن رأساً على عقب في منطقة الشرق الأوسط، كان فريق نتنياهو يعتقد أنه قادر على إدارة الصراع في قطاع غزّة بفضل موقف حركة حماس الرافض لخيار الدولتين، وهو اتّبع في لعبة التناقضات الفلسطينية خيار حماس ضدّ محمود عبّاس، رئيس سلطة الحكم الذاتي الذي يلتزم خيار الدولتين للتسوية الفلسطينية، ويُعتبر بالتالي تهديداً لاستراتيجية “إسرائيل الكبرى” التي يعتمدها نتنياهو وحُلفاءه في تيّار الصهيونية الدينية.
ما حصل في 7 أكتوبر أن قيادة حماس نفّذت بالتعاون مع قوى فلسطينية أخرى هجوماً قلَبَ حسابات نتنياهو وكسَرَ التوازن بين تل أبيب وإدارة غزّة، فضلاً عن تهديد عقيدة الأمن القومي لإسرائيل ولجَمَ حركة التطبيع العربية معها. ولم يكن أمام حكومة نتنياهو إزاء النجاح الخارق الذي حقّقته حركة حماس سوى شنّ هجوم كبير على قطاع غزة لسحق حماس واستعادة الأسرى الذين وقعوا في قبضة المقاومة الفلسطينية خلال الهجوم على المستوطنات والمعسكرات فيما يسمى “غلاف غزّة”، أما الهدف الحقيقي للهجوم الإسرائيلي، فكان تهجير سكان غزّة بعد جعلها غير قابلة للحياة عبر تدمير المساكن والبنية التحتية والنظام الصحي والتعليم.
الأبارتهايد والتطهير العرقي
إذا نظرنا اليوم إلى سيناريو “إسرائيل الكبرى” التي تضم الضفة الغربية وقطاع غزّة، أي فلسطين التاريخية “من النهر إلى البحر”، فإننا نرى تعادلاً ديموغرافياً بين السكان الفلسطينيين العرب (7.5 ملايين نسمة) والمستوطنين اليهود (7.5 ملايين نسمة). ولأجل صنع “إسرائيل الكبرى” يتعين الخروج من دولة الأبارتهايد أو الفصل العنصري من طريق اعتماد التطهير العرقي باعتباره حلاً يُخلّص الصهاينة من الفلسطينيين. وفي حال اعتماد التطهير العرقي لطرد الفلسطينيين، فإن نتنياهو وتيار الصهيونية الدينية المتطرّف، قد يحلّون مشكلة الفصل العنصري أو الأبارتهايد ويتخلّصون من حركة حماس في آنٍ معاً.
وللتذكير؛ لم تنفكّ إسرائيل منذ العام 1948 عن ممارسة التطهير العرقي عبر عمليات الطرد والاقتلاع وتهجير السكان الفلسطينيين، ولكن ما تفعله حكومة نتنياهو اليوم في قطاع غزة، يجري من دون تحديد الهدف السياسي أو الحل السياسي النهائي، الأمر الذي يشكو منه جنرالات الجيش الإسرائيلي الذين يعتبرون أن نتنياهو لا يرسم أفقاً لما بعد توقف القتال.
والحقيقة هي أن نتنياهو لا يريد إدارة جديدة لغزّة، بل تطهيراً عرقياً كاملاً عبر القضاء على كتل سكانية كبيرة وجعل البيئة غير قابلة للعيش، واعتماد سلاح الجوع والتجويع لدفع الفلسطينيين إلى الخروج من القطاع. والأهم من ذلك، اعتماد حرب الإبادة الجماعية عقب الفشل في جعل التطهير العرقي ينجح في إخراج الناس من غزّة، ولذلك فإن الأوضاع تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
خلاصة الموقف؛ تبدو إسرائيل عاجزة عن هزيمة حماس أو القضاء عليها، وهي لم تنجح في استعادة الأسرى، كما أنها غير قادرة على تنفيذ عملية التطهير العرقي بفضل الصمود البطولي للأهالي.
لذا، تواجه إسرائيل مشكلة كبرى في غزّة، فضلاً عن المشكلة مع حزب الله الذي قرّر التضامن مع فلسطين والوقوف عملياً إلى جانب المقاومة الفلسطينية في غزّة، وكانت النتيجة أن حرب الإسناد اللبنانية أفضت إلى خروج ما بين 70 إلى مئة ألف مستوطن يهودي من شمال فلسطين تحت نيران المقاومة اللبنانية والانتقال إلى وسط إسرائيل على أساس ظروف مؤقتة. وليس معروفاً ما إذا كان اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل سوف يسمح لهؤلاء المستوطنين بالعودة. يضاف إلى ذلك القوة النارية الناتجة من “محور المقاومة” الإقليمي في العراق واليمن والتي يُفترض أن يُحسب لها حساب في الحصار المضروب حول إسرائيل.
تبقى المسألة المتمثلة في كون إسرائيل لا يمكن أن تعيش في ظلِّ دولة أبارتهايد أو فصل عنصري، كما كانت الحال في جنوب أفريقيا، ولذلك يتعيّن عليها الاندفاع في خيار التطهير العرقي، وهذا الخيار أيضاً يواجه الفشل عملياً.
لضمان عدم خروج العملية عن السيطرة، أقيم خط اتصال ساخن بين واشنطن وطهران عبر سلطنة عمان. وفي الوقت نفسه، إلتزمت الإدارة الأميركية بالدفاع عن إسرائيل، وشاركت فرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن في الهجوم المضاد على عاصفة الصواريخ البالستية والمُسيّرات الإيرانية التي كانت تستهدف مواقع داخل إسرائيل
إسرائيل وإيران
من جهة أخرى، كانت إسرائيل تدفع في اتجاه الحرب مع إيران بينما كانت الولايات المتحدة تريد تجنّب تصعيد التوتر والاشتباك، وهذا كان أيضاً خيار الإيرانيين حتى نيسان/أبريل الماضي، وذلك على الرغم من الاعتداءات المتكرّرة على مستشاري الحرس الثوري الإيراني في دمشق واغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنيّة في قلب العاصمة طهران.
متى حدث التحوّل في الحرب الباردة بين تل أبيب وطهران؟
حدث هذا التحول بدءاً من مطلع نيسان/أبريل 2024، عندما هاجمت إسرائيل مقرّ السفارة الإيرانية في دمشق، وعندها قرّرت القيادة الإيرانية الردّ على إسرائيل متجاوزة المخاطرة بالذهاب إلى مواجهة شاملة من شأنها أن تفيد نتنياهو. وعشيّة تنفيذ الردّ العقابي الإيراني في 14 نيسان/أبريل، عملت الإدارة الأميركية مع السلطات الإيرانية عبر وسطاء لكي يكون هذا الردّ محدوداً وتبقى واشنطن على اطلاع على التوقيت الإيراني للردّ. وهكذا تمّ التنسيق بين الأميركيين والإيرانيين لكي يقتصر الردّ على هدفين عسكريين. ولضمان عدم خروج العملية عن السيطرة، أقيم خط اتصال ساخن بين واشنطن وطهران عبر سلطنة عمان. وفي الوقت نفسه، إلتزمت الإدارة الأميركية بالدفاع عن إسرائيل، وشاركت فرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن في الهجوم المضاد على عاصفة الصواريخ البالستية والمُسيّرات الإيرانية التي كانت تستهدف مواقع داخل إسرائيل. وتبيّن لاحقاً أن نصف الصواريخ الإيرانية أسقطها الأميركيون بفضل بوارجهم وطائراتهم وقواعدهم في المنطقة.
وعندما جاء وقت الردّ الإسرائيلي في 19 نيسان/أبريل، عملت الإدارة الأميركية طويلاً على احتواء المطالب الإسرائيلية بالتعرض للمنشآت النفطية والنووية. وفي النهاية ارتضت إسرائيل باستهداف رادار واحد تابع لبطارية S300 في أصفهان، وتُرك المجال الإعلامي مفتوحاً للبروباغندا الإسرائيلية للإدّعاء بأن النظام الدفاعي الإسرائيلي حقّق نجاحاً كبيراً. لكن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ، لأنّ تصريحات مسؤولين عسكريين ومدنيين إيرانيين تُفيد بتصميم طهران على شنِّ هجوم ثانٍ على إسرائيل، وهو أمرٌ ينتظر اتّضاح اتجاهات إدارة دونالد ترامب في السياسة الخارجيّة.
عملياً؛ تمر المنطقة بمرحلة انتقالية أخطر ما فيها هو اختلال ميزان القوة في أكثر من ساحة من الساحات الحاكمة وأبرزها إسرائيل التي ستستمر لعقود تحت وطأة حدث 7 تشرين الأول/أكتوبر، فضلاً عن إيران التي تضرر نفوذها الإقليمي في أكثر من ساحة غداة هذا الحدث نفسه، ويسري الإختلال على روسيا التي نجح حلف “الناتو” في نقل المعركة إلى أرضها.. ناهيك بواقع الإنتقال الأميركي من إدارة أدارت حربين عالميتين في أوكرانيا والشرق الأوسط إلى إدارة تريد إخماد الحروب لمصلحة عصر الصفقات.