صعدت أدوار تركيا وإسرائيل في سوريا على حساب خروج إيران وتلاشي الدور الروسي. وبالوقائع، فرضت أنقرة نفسها اللاعب الأقوى من الشمال حتى دمشق. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فألغى اتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974 في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وتقدّم الجيش الإسرائيلي ليحتل أراضٍ جديدة من جبل الشيخ إلى ريف دمشق، وليُدمّر في أوسع حملة جوية وبحرية، منذ حرب 1973، البنى التحتية للجيش السوري، تدميراً كاملاً، تحت شعار الخوف من وقوعها في أيدي أطراف معادية لإسرائيل.
ووظّف نتنياهو الحدث السوري في دفاعه عن نفسه خلال مثوله أمام المحكمة المركزية بتهم الفساد، ليقول إن ما جرى في سوريا لم يكن ممكناً لولا الحرب على غزة ولبنان وضرب “المحور” الإيراني، “مما أدى إلى هزة أرضية لم تحدث منذ اتفاق سايكس- بيكو عام 1916”.
ومجرد إثارة موضوع سايكس-بيكو، يعني أن الحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا لسوريا قبل أكثر من مئة عام، لم تعد صالحة، وبأن نتنياهو في صدد رسم خريطة جديدة تعكس موازين القوى الجديد، الذي أفرزته الحرب المستمرة منذ أكثر من عام فضلاً عن سقوط نظام حزب البعث في سوريا ولجوء الرئيس بشار الأسد إلى روسيا، وإضعاف القدرات العسكرية لـ”حماس” و”حزب الله” إلى حد بعيد.
إن تركيا هي في حالة صعود، وعلى الأرجح “ستُمارس نفوذاً أكبر على سوريا وعلى كامل بلاد الشام، وستُعزز الآمال العثمانية الجديدة لأردوغان”، وفق ما تستخلص صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية
حلب “مدينة تركية”!
يُسارع نتنياهو إلى “تكبير مساحة إسرائيل”، الفكرة التي يهجس بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، الذي سبق أن اعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل في 1967، فماذا عن الاحتلال الجديد الذي بدأ في 8 كانون الأول/ديسمبر الجاري؟
وفي الفراغ الذي نجم عن انهيار النظام في سوريا، تتمدد إسرائيل وتركيا بمباركة أميركية لرسم الخريطة السورية مجدداً، التي تمحو معالم سوريا سايكس-بيكو لمصلحة خريطة تتضح خطوطها على وقع التقدم التركي في شمال سوريا والتوغل الإسرائيلي في جنوبها.
ولعل أبلغ تعبير عن سعادة تركيا بما يجري في سوريا، كان تعليق رئيس الحركة القومية المتشددة في تركيا دولت بهشتلي، حليف حزب العدالة والتنمية في السلطة، على سقوط حلب في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في أيدي الفصائل السورية المسلحة، إذ قال إن حلب مدينة تركية.
ليس بهشتلي وحده الذي يعتبر أن حلب تركية، بل إنّ الكثير من القادة الأتراك يعتقدون ذلك، على غرار ما هو الحال مع مدينة الموصل العراقية. وبعد الحرب العالمية الأولى بقي هؤلاء يزعمون أن فرنسا اقتطعت بغير وجه حق حلب من الأراضي التابعة للسلطنة العثمانية، وكذلك الأمر بالنسبة لبريطانيا في الموصل.
تتمدد إسرائيل وتركيا بمباركة أميركية لرسم الخريطة السورية مجدداً، التي تمحو معالم سوريا سايكس-بيكو لمصلحة خريطة تتضح خطوطها على وقع التقدم التركي في شمال سوريا والتوغل الإسرائيلي في جنوبها
التمدد التركي
تُوفر الفوضى حالياً فرصة تاريخية لتركيا كي تتحكم بالتوازنات في سوريا، في مشهد شبيه بما فعلته إيران في العراق عقب الغزو الأميركي عام 2003. عامذاك، توّلت أحزاب المعارضة العراقية التي تحظى بدعم إيران السلطة خلفاً لنظام صدام حسين. ونجم عن ذلك دولة عراقية تدور في الفلك الإيراني قبل أن تعود القوات الأميركية عام 2014 لمحاربة تنظيم “داعش”. ومع ذلك، فتح العراق أمام إيران مجالاً لتعزيز نفوذها الإقليمي على نحو غير مسبوق.
الآن، الأحزاب السورية المدعومة من تركيا وبينها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بزعامة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) و”الجيش الوطني”، هي التي ستتولى السلطة في دمشق، لتنشأ دولة تدور في الفلك التركي.
لكن تبقى العقبة الكردية التي يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التغلب عليها. ويتمتع أكراد سوريا بالحماية الأميركية المباشرة مع وجود 900 جندي أميركي في شمال شرق سوريا، أي في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تُشكّل “وحدات حماية الشعب” الكردية عمودها الفقري. وينظر أردوغان إلى “الوحدات” على أنها النسخة السورية لـ”حزب العمال الكردستاني” الذي يقاتل من أجل الحكم الذاتي في جنوب شرق تركيا. أما واشنطن فترى في أكراد سوريا شركاء في قتال “داعش”، ورفضت في السابق التمدد التركي في اتجاه المناطق الخاضعة لسيطرتهم ولا سيما حقول النفط الرئيسية في سوريا.
التخلص التركي من العقبة الكردية!
ومع تبدل الأوضاع بعد انهيار النظام السوري، يجد أردوغان فرصة في طرد “قسد” من شمال سوريا نهائياً ودفعهم نحو شرق الفرات في مرحلة أولى. وهذا ما أثبتته سيطرة “الجيش الوطني” المعارض والمدعوم تركياً على تل رفعت ومنبج والاستعداد للتوجه إلى مدينة كوباني (عين العرب)، التي تحتل رمزية كبيرة لدى الأكراد بعدما تمكنوا من منع “داعش” من اجتياحها عام 2015.
ويتلمس أكراد سوريا الخطر الداهم. ولذلك، لجأوا إلى التودد إلى الحكام الجدد لدمشق، فرفعوا علم المعارضة السورية على مراكز الإدارة الذاتية في مناطق سيطرتهم، كما سلّموا سبع مناطق في محافظة دير الزور كانوا يُسيطرون عليها بعد انسحاب الجيش السوري، إلى “هيئة التحرير الشام”.
وكان الملف الكردي الموضوع الرئيسي الذي بحثه وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في أنقرة مع أردوغان يوم الجمعة الفائت، وسط تناقض في وجهتي نظر الطرفين. إذ شدّد بلينكن على أن “قسد” هي شريك مهم في محاربة “داعش”، بينما كرّر أردوغان أن “قسد” هي “تنظيم إرهابي” وأن من الخطأ الاتكال على هذا التنظيم في محاربة تنظيم إرهابي آخر.
والمعارضة التي تبديها إدارة الرئيس الأميركي في المساس بأكراد سوريا، قد لا تتمسك بها إدارة ترامب. سبق للرئيس الأميركي المنتخب أن وصف سوريا في إدارته الأولى بأنها “أرض الرمال والموت” وأمر بسحب الجنود الأميركيين منها. لكن وزير دفاعه جيم ماتيس ضغط من أجل اقناعه بابقاء 900 جندي فقط لحماية الأكراد، وكي لا يصل النظام السابق أو “داعش” إلى حقول النفط والاستفادة من عوائدها.
كما أن سقوط حكم الأسد، سيُشجع القبائل العربية التي كانت متحالفة مع “قسد” على الخروج من هذا التنظيم، مما يفاقم من عزلة الأكراد.
ثمة أسئلة لا أحد يملك جواباً قاطعاً عليها ولا سيما سؤال هل تبقى سوريا دولة مركزية موحدة أم أنّ هناك من يُريد تناتشها وتقسيمها.. وحتماً سيكون للجواب على السؤال المذكور ارتداداته على الجوار السوري القريب، ولا سيما في لبنان والعراق
خلط أوراق جديد
واللافت للانتباه في الموضوع الكردي، أن مسؤولين ومحللين إسرائيليين، بدأوا يدعون إلى ضرورة مد الجسور مع أكراد سوريا وتقديم الحماية لهم. وقد تجد إسرائيل في ذلك ذريعة أخرى لتوطيد حضورها العسكري والسياسي في سوريا، خصوصاً وأن نتنياهو يخشى أن يظهر فصيل من المعارضة السورية شبيه بحركة “حماس”، مما يُعيد خلط الأوراق ويُوفّر فرصة لإيران للنفاذ مجدداً إلى سوريا.
والأمل الوحيد لدى أكراد سوريا، وفق مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، هو أن مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب المقبلة مايك والتز، والمرشح لمنصب وزير الخارجية ماركو روبيو، وكلاهما متعاطف مع الأكراد، قد ينجحان في اقناع ترامب بعدم مجاراة أردوغان في خططه. لكن ماذا لو أقدم “الغازي” أردوغان المنتشي بسقوط الأسد، على فرض أمر واقع جديد قبل تولي ترامب مهامه رسمياً في 20 كانون الثاني/يناير المقبل.
إن تركيا هي في حالة صعود، وعلى الأرجح “ستُمارس نفوذاً أكبر على سوريا وعلى كامل بلاد الشام، وستُعزز الآمال العثمانية الجديدة لأردوغان”، وفق ما تستخلص صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية.
وبحسب الديبلوماسي التركي السابق ومدير مركز إيدام للأبحاث في إسطنبول سنان أولجن: “من وجهة نظر تركيا، فإن عنصر المخاطرة الجديد هو انهيار الدولة السورية.. إن تفتيت الوحدة السياسية لسوريا يُمكن أن يؤدي إلى ظهور دولة شبيهة بالكيان الكردي، بدعم محتمل من الولايات المتحدة وإسرائيل”.
لم يبحْ المشهد السوري بكل ما يعتمل في داخله، ولا بالكيفية التي ستحكم بها البلاد، والتي ستترك تأثيراتها، بلا شك، على دول الجوار المباشر وكامل العالم العربي، وثمة أسئلة لا أحد يملك جواباً قاطعاً عليها ولا سيما سؤال هل تبقى سوريا دولة مركزية موحدة أم أنّ هناك من يُريد تناتشها وتقسيمها.. وحتماً سيكون للجواب على السؤال المذكور ارتداداته على الجوار السوري القريب، ولا سيما في لبنان والعراق.