خديعة ترامب

كيانيَّانِ استيطانيانِ في عالمِنا المعاصر. "الولاياتُ المتحدةُ" و"إسرائيل". نموذجانِ كولونياليّانِ يجْمعانِ بين الرأسماليّةِ والعنصرّيّةِ والاستبدادِ والتزويرِ. ويتقنَّعانِ بشعاراتِ الحريّةِ والديمقراطيّة. تقودُهُما الماسونيةُ، والصهيونيةُ التَلموديةُ، والصهيونيّةُ المسيحيةُ، أيْ مُثلَّثُ الدولةِ العالميةِ العميقةِ، أو الحكومةِ العالميةِ الخَفيّةِ. كلٌّ من هذينِ الكيانينِ اِغتصبَ أرضاً، وارتكبَ مجازرَ، ونظَّمَ إباداتٍ جَماعيّةً بحقِّ أبناءِ الأرضِ الحقيقييّن. هذا ما حصلَ في أرضِ أميركا وفي أرضِ فلسطين..

ليس في تاريخِ الكيانينِ الأميركي والإسرائيلي أيُّ رابطٍ بينَهما وبينَ فكرةِ السلام والعدالة. الأساسُ عندَهما هو الحربُ والتوسُّعُ والاستغلالُ. ينظرانِ إلى شعوبِ الأرضِ على أنَّهم “غوييم”. ولا يُمكِنُ في تقديرِنا فَهْمُ مواقفِهما وخُطَطِهِما خارجَ هذه المعادلاتِ. وها هو الرئيسُ الأميركيُّ دونالد ترامب يجدِّدُ تأكيدَ ذلك مؤخَّراً في خطابينِ مُثْقَلَيْنِ بالادّعاءاتِ المفضوحةِ في “الكنيستْ الإسرائيلي” و”شرْم ِالشيخ”. لقد جاءَ يفاخِرُ أمامَ أتباعِهِ عرباً ومسلمين بخُطتِهِ التي أوقفتْ إطلاقَ النارِ في غزَّة بعدَ عامينِ على حربِ الإبادةِ التي شنَّها الكيانُ الصهيوني. واستعاضَ عن أوهامهِ وأحلامِهِ بجائزةِ نوبل للسلام بحمامةٍ ذهبيةٍ من بنيامين نتنياهو وقلادة النيل من الرئيس المصري عبد الفتَّاح السيسي. وأعطى لهذه الخطةِ معانيَ إستراتيجيَّةً ليستْ موجودةً في نقاطِها أصلاً. ونفَّذَ خديعةً كبيرةً على مرأىً ومسمعٍ من الحاضرينَ الذينَ لن يندمُوا على حضورِهِم لأنَّهم هم أنفسُهم شركاءُ في هذه الخديعةِ التي تُصيبُ مَقتلاً جديداً في معنى القضيّةِ الفلسطينية.

نعرفُ طبعاً، أنَّ أبناءَ غزَّةَ بعدَ سنتينِ من الحربِ الإباديةِ يحتاجونَ إلى وقفِ إطلاقِ نارٍ لعلَّهُ يكونُ اِستراحةَ مُحاربٍ. هذا حقُّهم لالتقاطِ الأنفاسِ بعد المعاناةِ القاتلة. ولكنَّ المسألةَ لا تقِفُ عندَ هذا الحدِّ، بل تمتدُّ إلى المآلاتِ المستقبليَّةِ القريبةِ والبعيدة. وهنا تبرزُ الملاحظاتُ الخطيرةُ الآتيةُ:

أولاً: وقفُ إطلاقِ النارِ لا يعني بالضرورةِ في العلومِ العسكريةِ وفي معاهداتِ القانونِ الدوْليّ وقفَ الحربِ، بل هو نوعٌ من الهُدنةِ الملتبسةِ التي قد تتعرَّضُ للانتكاسِ في أيِّ لحظةٍ. وليس في خُطةِ ترامب ما يُزيلُ هذا الالتباس. لقد سجَّلَتِ المقاومةُ بصمودِها واستبسالِها موقفاً مشرِّفاً عندما كسَرتْ هدفَ نِتنياهو باستردادِ الأسرى الإسرائيليين بالقوة، وحرّرتْ نحوَ ألفيْ أسيرٍ فلسطينيّ، (1986 أسيراً) واستقطبتْ تأييدَ الرأيِ العامِّ الشعبيّ في العالمِ شرقاً وغرباً بمن فيه شرائحُ لا يُستهانُ بها في قلبِ الولاياتِ المتحدةِ نفسِها. ولكن في الوقتِ عينِهِ لم تتخلَّصْ من الغموضِ الخطيرِ في مرحلةِ ما بعدَ إطلاقِ النار، وهو غموضٌ يفتحُ البابَ واسعاً أمامَ تأويلاتٍ قد تُفضِي إلى تجدُّدِ الحربِ ولا سيّما أنَّ التوقيعَ العربي على هذه الخُطةِ في شرْمِ الشيخ ليس بعيداً عن الرغبةِ في إسقاطِ البعدِ السياسي القومي والتحرُّري عن القضيةِ الفلسطينية وتحويلِها إلى مجرَّدِ قضيةِ أناسٍ يحتاجون إلى الغذاء والماء والدواء والمسكن والمدرسة.. إلخ.

عواملَ الحربِ ما زالتْ قائمةً، وهي في المدى المنظورِ تتجاوزُ غزَّةَ إلى لبنان فالأميركيونَ والإسرائيليُّونَ والعربُ الذينَ معهم يُريدونَ دفنَ فكرةَ المقاومةِ ليُسيطروا على كلِّ المنطقة

ثانياً: مفهومُ وقفِ الحربِ القائمُ على وقفِ إطلاقِ النارِ فحسْبُ، هو مفهومٌ قاصرٌ، ولا يَعني أبداً السلامَ. السلامُ لا يقومُ إلَّا العدالةِ والحقوقِ، وهذا لا يتوافرُ في خُطةِ ترامب. لا تُوجَدُ في الخطةِ أيُّ آليّةٍ للاعترافِ بالحقوقِ السياسيّةِ والوطنيةِ للشعبِ الفلسطيني، ولا أيُّ إلماحةٍ إلى دولةٍ فلسطينية، ما يعني أنَّ عواملَ الحربِ ما زالتْ قائمةً، سواءٌ على أرضِ فلسطين أو من خلالِ الالتفافِ عليها من جوارها، عبرَ الاستمرارِ في مشروعِ تغييرِ خرائطِ المنطقةِ. وها هي الأوضاعُ خطيرةٌ جدَّاً في سوريا المنقسمةِ، ولبنانَ المضطربِ، والأردنِّ القلِقِ، ومصرَ التي تسيرُ بينَ النُقطِ، ودولُ الخليجُ المستعدّةُ لمزيدٍ من الزحفِ أمام الكاوبوي، فيما لا تُخَبِّىءُ تركيا أطماعَها، ولا تتجاهلُ إيرانُ ما يُحيطُ بها من مخاطرَ عُدوانيّةٍ وهْيَ لهذا السببِ الأساسي، لم تُشاركْ في قِمَّةِ شرْمِ الشيخ. وإذا كان الرئيسُ الأميركيُّ قد غلَّفَ الخُطةَ المسمَّاةَ باسمِهِ بِغلافِ السلام ِفإنَّه باتَ واضِحاً أنَّ ما يُريدُهُ هو الاستسلامُ النهائيُّ والإمساكُ بالعرَبِ من خلالِ قطعِ العُنقِ الفلسطيني. وهْوَ إنْ حصلَ يعني قطْعَ أعناقِ العربِ جميعاً، وإنشاءَ ما يُدْعَى بـِ”الشرقِ الأوسطِ الجديد”، أي سايكس-بيكو أميركية تستوعبُ “إسرائيلَ الكبرى”.

ثالثاً: هذا المُخطـَّطُ ما زالَ موجوداً. قِمَّةُ شرْمِ الشيخِ أكَّدتْ ذلكَ. العربُ الذينَ حضرُوا، والذينَ لم يَحضُرُوا مُوافقونَ إلَّا قليلاً جدّاً منهم. لقد أرادَ الرئيسُ الأميركيُ تحت شعارِ السلامِ المزعومِ أنْ يُثبِّتَ في شرمِ الشيخ ما وعدَ بهِ في الكنيستْ الإسرائيلي.هناكَ قالَ بوضوحٍ: “سنفرِضُ السلامَ بالقوةِ”و”سنبقى نُزَوِّدُ إسرائيلَ بالأسلحة الفتَّاكةِ”. ثمَّ لم يخرجْ عن هذه المعادلةِ في القِمّةِ على أرضِ مصر حينما تحدَّثَ عمَّا وصفَهُ بِحلولِ السلام في المَنطِقةِ، وهْوَ لا يعني سوى جرِّ الجميعِ إلى التطبيعِ الشامل والانضمامِ إلى الاتفاقيّاتِ الأبراهيمية. وما لم يتِمَّ ذلك فالضغوطُ باقيةٌ والحربُ آتيةٌ.

رابعاً: الخُطةُ الترامبيَّة تندرِجُ في هذه السياقاتِ التي أشرْنا إليها، وهْيَ الجائزةُ السريَّةُ للكيانِ الصهيوني التي اتفق عليها ترامب ونتنياهو ورون ديرمر في البيت الأبيض ضمن محاولة القضاء على القضيةِ الفلسطينية، ومن ثَمَّ هي أداةٌ لا حلٌّ، وهي مفخَّخةٌ بنظريةِ المراحلِ التي قد تنسِفها كلُّها في أيِّ وقتٍ، منعاً للاعترافِ بحقِّ الفلسطينيين ببناءِ دولةٍ ولو على جزءٍ من أراضي فلسطين التاريخيّة.

إذا كان الرئيسُ الأميركيُّ قد غلَّفَ الخُطةَ المسمَّاةَ باسمِهِ بِغلافِ السلام ِفإنَّه باتَ واضِحاً أنَّ ما يُريدُهُ هو الاستسلامُ النهائيُّ والإمساكُ بالعرَبِ من خلالِ قطعِ العُنقِ الفلسطيني

خامساً: أمام هذه الخُطةِ الخطيرةِ التي بَدأتْ بوقفِ إطلاقِ نارٍ (كان لا بُدَّ منه تكتيكيّاً)، تدخلُ المقاومةُ الفلسطينيّةُ في مرحلةٍ جديدةٍ. ويبدو من الآنَ أنَّها ستكونُ مرحلةً شديدةَ التعقيد، ولا سيّما عندما تبدأ المفاوضاتُ حول مسألتيْنِ مهمِّتيْنِ: السلاح، والسلطة الإداريّة في غزَّة. الخُطةُ الترامبيّة تطلبُ تسليمَ السلاح وهو أمرٌ صعبٌ جدّاً في ظلِّ عدمِ وجودِ أفقٍ سياسي لتحقيقِ دولةٍ فلسطينية، مثلما هو مسألةٌ مصيريّة، فإذا – على سبيل الافتراض العبثي- جرى التسليم سينعكسُ ذلك سلباً على فكرةِ المقاومة لا على بنيةِ المقاومة فحسْبُ، وهذا ما لا تستطيع حماس والفصائلُ أنْ تتحمَّلَ وِزْرَهُ. وإذا لم يتِمَّ تسليمُ السلاح فسيتذرَّعُ أطرافُ خُطةِ ترامب بأنَّ المقاومةَ الفِلسطينيةَ خرقتِ الاتفاق. أمَّا مسألةُ إدارةِ غزَّةَ فهي أقلُّ صعوبةً وإنْ تكنْ تحملُ مشروعاً سياسيّاً يرْمي إلى وضع الفلسطينيينَ تحت الوصايةِ الدوليةِ والعربيةِ المتحالفةِ مع الولاياتِ المتحدة وإسرائيل، لكنَّ الأهمَّ هو السلاحُ إذْ إنَّ المشروع السياسي المذكور يستحيلُ تنفيذُهُ معَ مقاومةٍ مسلَّحةٍ. ومن هنا سيكونُ على حماس والفصائلِ اتخاذُ قرارٍ مصيريٍّ يُحدِّدُ آليّاتِ النضالِ في المرحلةِ القريبةِ المقبِلة.

إقرأ على موقع 180  الغاز الاسرائيلي... طموحات استراتيجية لأدوار دولية

لكلِّ ما سبقَ فإنَّ عواملَ الحربِ ما زالتْ قائمةً، وهي في المدى المنظورِ تتجاوزُ غزَّةَ إلى لبنان فالأميركيونَ والإسرائيليُّونَ والعربُ الذينَ معهم يُريدونَ دفنَ فكرةَ المقاومةِ ليُسيطروا على كلِّ المنطقة. وليس أكثرَ دلالةً على ذلك من كلامِ ترامب لمحطةِ CNN بعد أقلَّ من 48 ساعة على قِمةِ شرْم الشيخ إذْ قالَ: “باستطاعةِ إسرائيلَ أنْ تستأنفَ القتال عندما أطلبُ منها ذلك إذا لم تلتزمْ حماس بكل الخطة”، فهل هناك دليلٌ أوضح؟

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الغاز الاسرائيلي... طموحات استراتيجية لأدوار دولية