منْ منا لا يتذكّر صور الرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو وهو يُوقّع، مستسلماً، على خطّة التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي في العام 1998 ومن خلفه؛ وقفَ ميشيل كامديسو مُنتصراً مُتعالياً؟ كل شيء في موقف هذا الأخير بدا مُمعناً في الإهانة، كما أوّضح ذلك برتران بديع، الباحث الفرنسي الشهير في العلوم السياسية والمنظّر في العلاقات الدولية، في كتاب نُشر سنة 2014.
في تقدير برتران بديع أن الإهانة كانت دائماً جزءاً لا يتجزّأ من العلاقات بين الدول، وأنّ قيم الحداثة لم تُغيّر في ذلك شيئاً. بلّ على العكس من ذلك تماماً؛ “إنّ منطق التنافس والفردانية أثّر بشكلٍ متزايد على العلاقات الاجتماعية ممّا سرّع وزاد من حدّة هذه النزعات”[1]. والأمثلة على صحة هذا الزعم كثيرة.
في الفصل الأول الذي يتناول الجانب التاريخي والغنيّ بالتوثيق؛ يُحلّل المؤلف عدداً من أحداث نزاعيّة اتّسمت بقدر كبير من تحقير بعض الدول من قبل القوى العظمى: الحملة التأديبية التي قادتها بريطانيا ضد الصين عام 1840 (حرب الأفيون). تفكيك الإمبراطورية العثمانية. التدخل الفرنسي في مالي، وما إلى ذلك.
ممّا لا شك فيه “أنّ الفكرة آخذة في الترسّخ وأنّ الإذلال على أنواعه بات معياراً للعلاقات الدولية”[2]. كما أكّد برتران بديع الذي كان هدفه، ونجح في اثباته، من السردية التي قدّمها؛ إظهار كيف يمكن للنظام الدولي خلق نوع من الإذلال، يتولّد عليه ممارسة دبلوماسية ردّ الفعل (حالتا إيران وكوريا الشمالية باعتبارهما اليوم المثال الأدق). كان الهدف العام هو مساعدتنا على “فهم […] المآزق الحالية في الحياة الدولية، والتي لا يمكن اختزالها في الفئات الكلاسيكية للعلوم السياسية المعتادة”[3].
في حين يؤدّي الإذلال إلى أربعة أنواع غير مسبوقة من الدبلوماسية من جانب الدول المُذلة (انتقامية؛ سيادية؛ احتجاجية؛ منحرفة)[4]، فإنّه يميل أيضًا وعلى التوازي؛ إلى تشكيل “نظام مضاد” تثور فيه المجتمعات المضطهدة (الربيع العربي) ويكون للّاعبين العابرين للحدود حصة الأسد في منطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط، على حدّ تعبير برتران بديع. يحيلنا هذا كله إلى جهات فاعلة مثل “حزب الله” في لبنان وحركة “حماس” في فلسطين، التي وُلدت من رحم هذا الإذلال.
هذا الإذلال هو عاملٌ أساس في فهم ما يحدث حالياً في غزة، ويتعلق أيضًا بمصير شعب بالكاد يتمتّع منذ عام 1948 بحق الوجود، علاوةً على ازدراء وحتى لا مبالاة جزء كبير من هذا الكوكب بوضعه وأحواله.
من الثنائية القطبية إلى “العجز الذاتي”!
إنّ أول ما يمكننا ملاحظته في الخطاب الغربي حيال هجمات حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو قصر النظر الفكري والاعتداد بالنفس الذي عفا عليه الزمن في عالم ينحو بشكل وثيق إلى التعقيد والتشابك. كان هذا النوع من الخطاب الاختزالي مُتاحاً خلال الحرب الباردة (1947-1989) عندما كان النظام الدولي برمّته ثنائيّ القطبية، تهيمن على موازينه قوّتان عظميان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. كان من السهل وقتذاك قراءة وفهم طبيعة الانقسام بين الكتلة الغربية والكتلة الشرقية. ومع نهاية الحرب الباردة، تسبّب ذلك الاستقطاب الحادّ في فسح المجال لتفتّت النظام الدولي الذي اتّسم بالتنافس المتزايد بين الدول، وظهور قوى جديدة تتحدّى النظام العالمي بشكل متزايد ومطّرد، فضلاً عن انتشار الفاعلين الاجتماعيّين القادرين على التأثير في مسار الأحداث وإنْ بدرجات متفاوتة[5]. ومع ذلك، فإنّ النظام الدولي الحالي، الذي يصعب فك رموزه، هو نظام “عاجز ذاتياً”، بحسب برتران بديع، أيّ أنّه “غير قادر على تحقيق الأهداف القيّمة باللجوء إلى الوسائل التي تحدّدها الثقافة السائدة”[6].
إنّ غياب القيم المشتركة (أو الأخلاقية) في العلاقات الدولية يسمح باستمرار ازدواجية المعايير، بالتأكيد هي ليست ظاهرة حديثة العهد، فقد أشار إليها الكثير من المفكرين والمعلقين السياسيين قديماً وحديثاً، حينما طُبّقت حلول مختلفة لصراعات مماثلة. فلماذا يتعيّن طرحها الآن إذن؟
برغم فشل سياساتها في العراق وأفغانستان، لم تفهم الولايات المتحدة بعدُ أنّ الشرق الأوسط (بمعناه الواسع) يعمل كمنظومة متّصلة (الأواني المستطرقة) أيّ أوعية تتواصل في ما بينها، وأنّ الأقلمة مفهوم مفتاحي، إنْ رغبنا في فهم ما يحدث هناك
هناك نزاعان حاليان (أوكرانيا/روسيا. “حماس”/إسرائيل)، وكلاهما يمثّل شكلاً من أشكال انبعاث الصراع المتجدّد. وهما إذ ّذاكَ، مثالان مُفعمان بهذه التناقضات الغربية. ذلك أنّ ردود الفعل الغربية الغاضبة على كلٍ من الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 وهجوم حماس على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم ما تلاهُ من صمت الغرب نفسه أمام إفناء غزة وإبادتها، إنّما يعبّر بجلاءٍ عن إفلاس هذا العالم الغربي الذي اختلّت بوصلته الأخلاقية وحادت تماماً عن الجادّة.
وبصورة عابرة، يمكننا أن نقارن بين هذين النزاعين. فهما وجهان لنوعٍ واحدٍ من الاستقطاب الذي شكّل انبعاثاً جديداً لخطوط الصدع المتشابكة في الحرب الباردة. ذاك أنّ إسرائيل تجسيدٌ (“حصان طروادة” بالنسبة للبعض) لإمبريالية الغرب الذي تحكّم سابقاً في مقادير الشرق الأوسط منذ بداية القرن العشرين.
علاقات دولية موروثة.. ومستجدة
لا شكّ في أنّ روسيا فلاديمير بوتين قوّة صاعدة من جديد، إذ لم يمنعها انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 من البقاء نشطة في “الخارج القريب“، هذا التعبير الجيوسياسي (الخارج القريب) يشير إلى الحدود الخارجية السابقة للاتحاد السوفياتي وإلى منطقة النفوذ الروسي التي ترغب موسكو في الحفاظ عليها تحت السيطرة بأيّ ثمن، ولن تتسامح مع أيّ تدخّل فيها. وهذا بالضبط ما حدث مع أوكرانيا عندما عبّرت عن رغبتها في الانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما يفسر أيضاً مبرّرات التدخل العسكري الروسي في ترانسنيستريا (1992) وطاجيكستان (1992-1996) وجورجيا (2008).
وبصرف النظر عن هذا البعد المتعلق بتشظي النفوذ وتذرّره، فإنّ العلاقات الدولية الموروثة من النظام الويستفالي (نسبةً إلى صلح ويستفاليا 1648)، مهما كان توصيفها (قطبية أو متعدّدة الأقطاب، إلخ) تظل إلى حدّ ما من اختصاص الغرب وحده. فالغرب المتشدّق بـ”حضارته” المتفوّقة، وأفكاره التنويرية، وثورته الصناعية.. إلخ، يستخفّ وبشكل منهجي بقيمه الخاصة عندما تكون المصالح الأخرى – السياسية والاقتصادية – على المحك، في الوقت الذي يخترع فيه ترسانة من المفاهيم القانونية المرتبطة بالحرب، يطبّقها بشكل انتقائي على حالاتٍ ودولٍ (معتدية أو معتدى عليها) وفقاً للارتباطات الثقافية والسياقات السياسية والجيوسياسية والمصالح المختلفة، وهو ما يذكرنا بأنّ منطلق العلاقات الدولية عنصريّ على نحوٍ واضح (يضاف إليه انعدام الإنصاف بالطبع).
إنّ الإدانة و/أو التدخل في الدول التي نبذها المجتمع الدولي دائماً ما كانت تتعلق بأهداف سهلة و”في المتناول”. على سبيل المثال لا الحصر: صربيا عام 1999، وليبيا عام 2012، والعراق عام 2003، وأفغانستان عام 2001، وبنما عام 1990، وبالطبع فلسطين بشكل منتظم.
هناك نزاعان حاليان (أوكرانيا/روسيا. “حماس”/إسرائيل)، وكلاهما يمثّل شكلاً من أشكال انبعاث الصراع المتجدّد. هما وجهان لنوعٍ واحدٍ من الاستقطاب الذي شكّل انبعاثاً جديداً لخطوط الصدع المتشابكة في الحرب الباردة. ذاك أنّ إسرائيل تجسيدٌ (“حصان طروادة” بالنسبة للبعض) لإمبريالية الغرب الذي تحكّم سابقاً في مقادير الشرق الأوسط منذ بداية القرن العشرين
منهجية إسرائيلية في انتهاك القانون الدولي
لقد صدم الهجوم المفاجئ الذي شنّته “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الغرب بسبب استهداف العديد من المدنيين، وهو عمل وُصف بأنّه “جريمة حرب” و”جريمة ضد الإنسانية”، وقد سمعنا أيضاً معلقين سياسيين في فرنسا يؤكّدون بلهجة متغطرسة ومثيرة وغاضبة: أودّ أن أذكّركم بأنّ اختطاف المدنيين كرهائن هو “جريمة حرب”، وهو تأكيد نردّ عليه بأنّه أمر بديهي، ولكن؛ انتقاد سلوك “حماس” دون تدقيق أو تمييز يعبّر أيضاً في المقابل الضروري عن قصر نظر فكريّ، ويكشف عن انعدام القدرة على التحليل الشامل والنقدي والمحايد، ويعبّر عن انحياز ثقافي ملحوظ ومعتاد على أيّ حال. أولاً وقبل كل شيء، هذا يعني نسيان جذر المشكلة، أيّ إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 غير الشرعي (برغم اعتراف الأمم المتحدة بها على الفور) ونتيجتها الطبيعية المتمثلة في تجريد الشعب الفلسطيني من ممتلكاته، والذي لا يزال محروماً من دولة ذات سيادة حتى اليوم. ومن السخف أن تُحرم الأراضي الفلسطينية المحتلة من عضوية الأمم المتحدة، في حين تمّ منح جنوب السودان[7] هذا الوضع القانوني من دون تردّد ولو للحظة واحدة.
من المهم أيضاً أن نتذكّر بأنّ الدولة العبرية منذ نشأتها انتهكت القانون الدولي بشكل منهجي، بدءاً من اختطاف أدولف أيخمان في الأرجنتين (1961) ومحاكمته لاحقًا في إسرائيل، إلى تفجير محطة الطاقة النووية في العراق (1981) والاحتلال غير القانوني والمستمر لأجزاء من سوريا ولبنان. وأخيراً يحقّ لنا التساؤل التالي: هل الحديث عن جرائم الحرب يتجاوز الخطوط الحُمر التي لا ينبغي تجاوزها؟ هل يمكننا حقاً أن نبقى نفكر على هذا النحو عندما نرى بشراً لم يتعلموا شيئاً من دروس القرن العشرين الذي كان مرادفاً للعنف غير المسبوق؟ ليست جرائم الحرب هي التي ينبغي حظرها، بل الحرب نفسها. لقد حاول الدبلوماسي اللّامع أريستيد بريان[8] أن يفعل ذلك، وكذلك فعل ليون بورجوا[9]، منظّر التيار التضامني في نظريّات العلاقات الدولية. ولكن من دون جدوى.
جرائم حرب؟ كيف يمكن أن نصف ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في غزة إذن؟ مع نهاية يناير/كانون الثاني 2024، بلغت الخسائر البشرية أكثر من 26.000 قتيل و66.000 جريح[10]. على سبيل المقارنة: في دريسدن في فبراير/شباط 1945، قُتل 25.000 إلى 35.000 شخص (في يومين). وفي الوقت نفسه، نزح 85% من إجمالي سكان غزة، أيّ 2 مليون شخص وفقاً لأرقام الأمم المتحدة. وهي كوارث حدثت في الوقت الذي استخدمت فيه الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في 8 كانون الأول/ديسمبر 2023 لعرقلة قرار مجلس الأمن الدولي الدّاعي لوقف إطلاق النار لأغراض إنسانية! لقد وصف فيليب لازاريني، المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، الوضع في غزة بعبارات مثيرة للقلق:
“المأساة تستمر ولا تلوح لها نهاية. الناس في كل مكان، يعيشون في الشوارع، يفتقرون إلى كل شيء. إنهم يصرخون طالبين الأمان وإنهاء هذا الجحيم”.
كيف يمكن وصف العدوان المستمر على سكان محاصرين في مكان مغلق (حدود غزة مع مصر مغلقة)، ولا يستطيعون حتى الحصول على أبسط أنواع الرعاية (لأن المستشفيات متوقفة) وليس في وسعهم الفرار إلى إحدى الدول المجاورة؟
مقابل هذه المآسي، تم “منح” العديد من المجازر ذات الخسائر الفظيعة الأقل ممّا يحصل في غزة الكثير من الاهتمام، فعلى سبيل المثال: خلّفت مذبحة سربرنيتشا في البوسنة والهرسك عام 1995، التي ارتكبتها الوحدات الصربية، 8.372 قتيلًا، ووصفتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ومحكمة العدل الدولية بأنّها إبادة جماعية، في الوقت الذي يتم فيه اليوم تجاهل المجازر في غزة!
اليوم، يجوب بلينكن نفسه الشرق الأوسط، مُعلناً بصوت عالٍ وواضحٍ بأنّه يخشى “انتشار النزاع” واتّساعه، وبأنّ النزاع ينبغي ألا يكون إقليمياً. يقول هذا التصريح الكثير عن تناقضات وإمبريالية القيادة الأميركية التي، وبرغم فشل سياساتها في العراق وأفغانستان، لم تفهم بعدُ أنّ الشرق الأوسط (بمعناه الواسع) يعمل كمنظومة متّصلة (الأواني المستطرقة)
إذلال شعب كامل!
يشير مصطلح “الإبادة الجماعية” الذي صاغه الفقيه القانوني رافائيل ليمكين في عام 1943 إلى “جريمة يتمّ فيها، القضاء المادي (الملموس) والمتعمّد، كلياً أو جزئياً، على جماعة قومية أو عرقية أو دينية، في حدّ ذاتها، مما يعني قتل أفراد الجماعة أو تحطيمهم عقليًا (ونفسياً) وجسديًا أو جعلهم غير قادرين على الإنجاب (التعقيم)، بهدف جعل حياة الجماعة التي تمّ تقليصها على هذا النحو صعبة أو مستحيلة”.
لا شك بأنّ مناقشة تعاريف جرائم الحرب وتطبيقاتها المعقّدة، وما تنطوي عليه من قضايا سياسية وقانونية تقع خارج نطاق هذه الورقة البحثية، ذلك أنّ الهدف من إيرادها هو الإشارة إلى أنّ تعريف الإبادة الجماعية أو الجريمة ضد الإنسانية أو التطهير العرقي هو ذاته ما يتعرّض له سكان غزة “المحطّمون عقلياً ونفسياً وجسدياً” بالضبط، والذين سيصبحون بالتأكيد على هذا الغِرار “غير قادرين على الإنجاب” عندما تصبح أراضيهم غير صالحة للسكن تماماً. هنا يكمنُ إذلال شعبٍ كاملٍ، تمّ تجريده من إنسانيته بشكل ممنهج من قبل قوّة إسرائيلية لا تترك له سوى الفتات؛ تلك القوّة التي لطالما تبجّحت بنفسها عندما اعتبرت شعبها متفوّقاً على كل السكان (الشعب) العرب من حولها. دعونا لا ننسى أنّ إسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء دولة عسكرية، شكلت نفسها من خلال التوسع الإقليمي عبر احتلال أجزاءٍ من الدول المجاورة، وبالتالي من الإذلال والإهانة السماح لدولة تعتبر نفسها فوق القانون الدولي (بسبب المحرقة التي عانى منها يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية) بأن تمضي قدماً وتترك شعباً كاملاً يلاقي حتفه، في الوقت الذي لا يكترث له صُنّاع القرار الرئِيسون في هذا الكوكب.
يضاف إلى هذا الإذلال تهافت الدعاوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية؛ فقد منحت هذه الأخيرة، بوصفها الحليف الأقوى لإسرائيل، كما هو الحال دائماً، شيكاً على بياض لحكومة بنيامين نتنياهو للمضيّ في الانتقام من غزة بكل الطرق، كما سمحت لها بقصف ما تشاء من أراضٍ ذات كثافة سكانية هي من بين الأعلى في العالم، حتى أنّ وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في زياراته لإسرائيل، لعب بورقة الثقافة بقوله إنّه “هنا بصفته يهودياً”. واليوم، يجوب بلينكن نفسه الشرق الأوسط، مُعلناً بصوت عالٍ وواضحٍ بأنّه يخشى “انتشار النزاع” واتّساعه، وبأنّ النزاع ينبغي ألا يكون إقليمياً. يقول هذا التصريح الكثير عن تناقضات وإمبريالية القيادة الأميركية التي، وبرغم فشل سياساتها في العراق وأفغانستان، لم تفهم بعدُ أنّ الشرق الأوسط (بمعناه الواسع) يعمل كمنظومة متّصلة (الأواني المستطرقة) أيّ أوعية تتواصل في ما بينها، وأنّ الأقلمة مفهوم مفتاحي، إنْ رغبنا في فهم ما يحدث هناك.
أما بالنسبة إلى غزة، فقد اتّهم فيليب لازاريني إسرائيل – في مقال نشر في صحيفة “لوموند” بتاريخ 11 ديسمبر/كانون الأول 2023 – بأنّها تنتوي دفع سكان غزة إلى الهجرة إلى مصر. وتجاوزت هذه الفكرة مجرد التخمينات أو الاتهامات التي افتقدت إلى أساس منطقي وقتها إلى أن طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه من دون أن يذكر مصر. أشار بنيامين نتنياهو إلى “الهجرة الطوعية”، حسب ما ورد في صحيفة الوقائع الفلسطينية (The Palestinian Chronicle)[11]. وإذا ما تأكدّت هذه النوايا، فإنّ الهدف بالفعل هو طرد شعبٍ من وطنه.
عندما زرتُ معسكر الإبادة في أوشفيتز قبل بضع سنوات، لاحظت أنّه داخل الثكنة الأولى كان الشعار التالي منقوشاً على الحائط للكاتب والفيلسوف الإسباني الأمريكي جورج سانتايانا: “أولئك الذين لا يستطيعون تذكّر الماضي محكومٌ عليهم بتكراره“. وهذا ما يحدث اليوم في الأراضي الفلسطينية.
[1] – زمن المذلولين، باثولوجيا العلاقات الدوليّة، أوديل جاكوب، باريس، 2015، ص: 21.
[2] – المرجع نفسه، ص: 12.
[3] – المرجع نفسه، ص: 17.
[4] – المرجع نفسه، ص: 90.
[5] – أدّى هذا التأثير المتزايد للجهات الفاعلة غير الحكومية في العلاقات الدولية إلى ظهور النهج العابر للحدود الوطنية في العلاقات الدولية لاحقاً، هذا هو المفهوم النظري (الجهات الفاعلة) “الذي أسسه” الأكاديمي جيمس ن. روزيناو وشرحه في عمله الأساس، الاضطراب في السياسة الدولية: نظرية التغيير والاستمرارية، برينستون (نيوجرسي)، مطبعة جامعة برينستون، 1990.
[6] – برتران بديع، دبلوماسية التواطؤ: تجاوزات الأوليغارشية في النظام الدولي، باريس، لا ديكوفرت، 2011، ص: 249. يستوحي المؤلف تعريفه للشذوذ والاختلاف من أحد أعمال إميل دوركهايم.
[7] – أعلنت هذه الدولة الجديدة استقلالها في 9 تموز/يوليو2011، وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة في 14 يوليو/تموز 2011.
[8] – السياسي والدبلوماسي الفرنسي أريستيد بريان (1862-1932) حائز على جائزة نوبل للسلام عام 1926 لجهوده لأجل المصالحة بين فرنسا وألمانيا. دفاعًا عن الأمن الجماعي، وقّع بريان في عام 1928 على ميثاق كيلوغ-برييان مع نظيره الأميركي فرانك كيلوج، والذي أُعلن بموجبه حظر الحرب.
[9] – السياسي الفرنسي ليون بورجوا (1851-1925) تولّى عدداً كبيراً من المناصب الوزارية (الداخلية والعدل والخارجية وغيرها). وقد مهّد نشاطه الدبلوماسي، الذي ساهم في تعزيز الحوار بين الدول، الطريق لإنشاء عصبة الأمم (التي كان أوّل رئيس لها في عام 1919). حائز على جائزة نوبل للسلام في عام 1920. وهو أول منظّر للتضامن (كتب كتاباً يحمل نفس الاسم “التضامن” 1896).
[10] – حرب غزة 2014 خلّفت نحو 2200 جريح.
[11] – نقلاً عن كورييه إنترناسيونال (مجلة فرنسية)، عدد رقم 1731 (يناير/كانون الثاني 2024)، ملف “غزة. محو شعب”، ص: 15.