مغامرة حماس لم تكن مغامرة أبداً.. لماذا؟

شهد الأسبوع الفائت حدثين كبيرين: أولهما؛ الإثنين (20 أيّار/مايو) يوم أعلن المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة أنّه طلب من المحكمة إصدار مذكّرتي توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يؤاف غالانت (وثلاثة من قادة حماس). ثانيهما؛ الجمعة (24 أيّار/مايو) يوم أصدرت محكمة العدل الدوليّة قراراً يأمر إسرائيل بوقف حربها ضد رفح. هل كان أيٌّ من الحدثين ليحصل لولا "مغامرة" حماس؟

انتقلت إسرائيل في خلال أسبوع واحد من نشوة الإحتفال بذكرى 76 سنة على تأسيسها (المشؤوم طبعاً) إلى دولة في قفص الإتّهام، كانت تقف مشدوهة وهي ترى بنيّة من الدعم العالمي نسجتها منذ عقود تتفكك تدريجياً. وها نحن نرى دولاً أوروبيّة تتجرّأ على الإعتراف العلني بدولة فلسطين، برغم التهديدات الإسرائيليّة والأمريكيّة. نرى أيضاً الإحراج الكبير الذي بدأ بعض قادة أوروبّا يواجهونه (نموذج التغيير الطفيف في بعض الخطاب الرسمي الألماني) وكل ذلك نتيجة التحول في الرأي العام العالمي بسبب مجزرة الإبادة الجماعيّة الممنهجة التي تُنفّذها إسرائيل ضد أهل فلسطين.

الرمزيّة (symbolism) هي من الأشياء المهمّة جدّاً في عالم السياسة (وفي الحياة والفكر عامّةً). وبغضّ النظر عن قدرة المحكمتين على تنفيذ قراراتهما، لا يجب التقليل أبداً من رمزيّة كلّ قرار وما يُمكن أن يُبنى عليه. فحتّى لو صدر قرار بتوقيف نتنياهو ولم تتمكن المحكمة الجنائيّة من تنفيذه، وحتّى لو استمرّت إسرائيل (بتشجيع من أمريكا) في رفض الإنصياع إلى قرار محكمة العدل ولم توقف حربها الشعواء على رفح، فإن رمزيّة القرارين تكمن في أنّ الكيان الغاصب أصبح فعليّا في خانة دول مثل ألمانيا النازيّة، وأصبح نتنياهو، مجرم القرن الحادي والعشرين، الخليفة الشرعي لمجرم القرن العشرين أدولف هتلر.

نعم، استغرقت إسرائيل 76 سنة منذ تأسيسها لتصبح دولة مارقة باعتراف المجتمع الدولي (143 دولة انتصرت لفكرة دولة فلسطين رمزياً في الأمم المتحدة). يا لها من رمزيّة سورياليّة ساخرة بقدر ما هي مأساويّة، وأعني كيف حوّلت الصهيونيّة ضحايا المحرقة (إن كان من المنظور الفعلي أو السيكولوجي) إلى مرتكبين لمحرقة أبشع منها بكثير. وهذا الإرث سيبقى راسخاً في الوعي اليهودي (المناصر لإسرائيل أو المناهض لها) وأيضاً العالمي، وسيكون على شاكلة العار الذي يُهيمن على العقل الألماني بسبب إرث الإجرام النازي، ومثله الكثير في التاريخ البشري.

هل كان أيٌ من هذا سيحصل من دون مغامرة حركة حماس؟ وهل كانت حماس تدري أنّ مغامرتها ستقود إلى مثل هذه النتائج وستفضح الماكينة التي تعمل لمصلحة إسرائيل في دول الغرب ولها نفوذ ضخم في الشبكات السياسيّة والإقتصاديّة والماليّة والإعلاميّة والإستخباراتيّة والبوليسيّة والجامعيّة و..، والتي بإسم إسرائيل تُقوّض الآن أسس الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والحريّات في دول الغرب نفسها؟

يا لها من “عدالة شعريّة” بحسب التعبير الإنكليزي (poetic justice): الغرب الذي ما إنفكّ يدعم إسرائيل ردّت الأخيرة له جميله بتقويض حرّياته وقوانينه ودساتيره وحقوقه و..

كان الأجدر باسرائيل أن “تبلع” ما حصل في لحظة 7 أكتوبر/تشرين الأول، أقله لأجل “دفن” القضية الفلسطينية في عقول الأجيال الفلسطينية الجديدة، لكن حربها ضدّ الفلسطينيّين العزّل وتحولها منذ ساعاتها الأولى إلى حرب إبادة حقيقية، وفّر لأجيال من الفلسطينيين ذاكرة وديناميات ستُولد حركات فلسطينية مقاومة أكثر تطرفاً من حماس

هل كانت حماس تُدرك أنّ مغامرتها ستقود إلى إدانة إسرائيل وقادتها، ولو أوّليّاً على الأقلّ، أمام محكمة العدل الدوليّة والمحكمة الجنائيّة الدولية؟ وهل كانت تعلم أبعاد ذلك على المديين القريب والبعيد؟ وكيف ستزيد وتتسارع وتيرة عُزلة إسرائيل عالميّاً، سواء بين اليهود أو غير اليهود؟ هل كانت تعلم أنّ إسرائيل ستجد نفسها في قفص الإتّهام، مُدانة بارتكاب أبشع الجرائم في العصر الحديث؟ وهل كانت حماس متيقنة أنّها ستُفجّر حراكاً طلّابياً عالمياً نصرةً للقضيّة الفلسطينيّة؟ وهل كانت تعلم أنّ إسرائيل لن تخرج منتصرة في حربها الحاليّة؟ وهل احتسبت لخسارة إسرائيل معركة الرأي العام العالمي، خصوصاً في أوساط “الجيل الصاعد”، وكيف ستُغذّي هذه الخسارة التطرّف الداخلي في المجتمع اليهودي الإسرائيلي وكيف سيكبر الشرخ في هيكلها بين ثلاث مجموعات، نجدها الآن تتقاذف الإتّهامات وتلوم بعضها البعض على هزيمة إسرائيل: 1) أتباع الصهيونيّة العلمانيّة الذين يُعطون أنفسهم ميزة تأسيس الدولة وتقويتها لكن نفوذهم يتضاءل. 2) الصهيونيّة الدينيّة المتطرّفة التي أصبح لها قوّة كبيرة منذ سبعينيات القرن المنصرم مع وصول حزب الليكود إلى السلطة. 3) المتديّنون الحريديم الذي يرفضون كلا الفريقين.

ولا يجب أن ننسى أنّ أكثر من 21% من سكّان إسرائيل هم من العرب يمارس عليهم الصهاينة أبشع أنواع التمييز العنصري. هذا الشرخ في الداخل الإسرائيلي بدأ يظهر تأثيره على داعمي إسرائيل الذين يتصارعون حالياً في تأييدهم لطرف إسرائيلي ضد طرف آخر. وسيزيد ذلك من دون شك من أعداد اليهود الكارهين لإسرائيل وتصرّفاتها. هل كانت حماس مُدركة لكلّ تلك التداعيات؟

ما صار مؤكداً أن عجز إسرائيل عن هزيمة حمّاس برغم الإجرام الهمجي والتدمير الممنهج في قطاع غزّة والضفة الغربية يُثير أسئلة كبيرة ويخلق حالة من الغموض إزاء مستقبل هذه الدولة. يزيد الطين بلة عندما نجد أن إسرائيل صارت مردوعة في الجبهة الشمالية بسبب عجزها عن ايجاد حل لمعضلة حزب الله. هي تكتفي بـ”الردّ” على “إعتداءات” حزب الله، كما تقول، لكنّها غير قادرة على إنهاء هذا “التهديد” على مدى ثمانية أشهر من عمر الحرب، برغم كل ما يصدر عنها وعن حلفائها الغربيين من تهديدات وتهويلات، وهذا سببه ليس لأنّ إسرائيل عاجزة عن تدمير لبنان. بل لأنّها مرعوبة من كلفة الحرب عندما تجد نفسها في مواجهة مع فصيل يمتلك من الامكانيات والقدرات ما يفوق بكثير تلك التي تمتلكها حماس، حتى أنها تعرف جيّداً أنّه قادر على إيلامها في الداخل إلى درجة يُمكن أن تكون قاتلة.

إقرأ على موقع 180  قرية "العقبة" الفلسطينية.. نموذجاً لمحاكاة الحرب مع حزب الله

هل كانت حماس تعرف ذلك؟

لنقارن هذا بحروب الأعوام 1948، 1967، و1973، عندما حاربت إسرائيل على جبهة أو جبهات عدة دفعة واحدة وتمكنت من هزيمة الجيوش العربيّة العرمرمية. حتّى في حروبها الأخرى لم تكن إسرائيل أبداً في موقع الضعيف أو الخائف أو المتردّد كما نشهد اليوم.

إذاً، هل أوصلت مغامرة حماس إسرائيل إلى حالة من فائض القدرة أم فائض العجز؟ القبول أم العزلة؟ البريء أم المتهم؟

يُمكن أن نفترض أنّ إسرائيل ربما أخطأت وكان الأجدر بها أن “تبلع” ما حصل في لحظة 7 أكتوبر/تشرين الأول، أقله لأجل “دفن” القضية الفلسطينية في عقول الأجيال الفلسطينية الجديدة، لكن حربها ضدّ الفلسطينيّين العزّل وتحولها منذ ساعاتها الأولى إلى حرب إبادة حقيقية، وفّر لأجيال من الفلسطينيين ذاكرة وديناميات ستُولد حركات فلسطينية مقاومة أكثر تطرفاً من حماس وكل ما شهدنا من حركات فلسطينية مقاومة طوال 76 عاماً، وهذا يعني أن هذه القضية لن تموت وستجد أجيالاً تدافع عنها بكل ما أوتي لها من امكانيات.

نعم، بعد قرابة ثمانية أشهر، تجد إسرائيل نفسها معزولة، مكروهة، ضعيفة، مدانة، ضائعة، داخليّاً وخارجيّاً. من يلتفّ حول إسرائيل الآن هو عنصريّ أكثر منها ويضمر لها الشرّ، كما هو الحال مع الجمهوريّين الأمريكيّين المتديّنين الذين كلّ همّهم إيصال اليهود إلى حالة من الضعف والضياع تجبرهم على تغيير دينهم والإيمان بالمسيح، وتكتمل عند ذلك النبوءة المسيحيّة الإنجيليّة.. أو هم لفيف من المنتفعين الذين يريدون المال اليهودي والصوت اليهودي من أجل الحفاظ على مناصبهم، كما هو الحال مع الرئيس الأمريكي جو بايدن.

نعم، تبيّن مع مرور الأيّام أن “مغامرة” حماس في يوم السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي لم تكن حقّاً مغامرة. ففي كلّ يوم، تبرهن حركة حماس أنّها أعدّت العدة للحرب، فعليّاً وليس خطابيّاً، كما عوّدتنا معظم الأنظمة العربيّة.

لقد عانى أهل فلسطين من الترهيب والتنكيل والمجازر طوال عقود من الزمن وقبل تأسيس حركة حماس. لكن حماس بـ”مغامرتها” أعادت فلسطين إلى ذاكرة العالم، وقرّبت حلم الدولة الفلسطينيّة من الواقع، وهو ما لم يتمكّن أحد من تحقيقه من قبل.

وأريد أن أختم بالحديث عن بعد غير متوقّع لمغامرة حماس، لا أعتقد أنّ أحداً في الحركة كان واعياً له، ومن شأنه اعادة تصويب مسار الحراك العالمي الذي أعاقته عمليّة تنظيم “القاعدة” الإرهابي في 11 أيلول/سبتمبر 2001. فالحراك العالمي ضدّ الهيمنة الغربيّة فقد كثيراً من اندفاعته وجاذبيّته، وظهرت حوله أسئلة وجوديّة كثيرة: هل نحن ما زلنا بحاجة إليه؟ هل هو مفيد لعالمنا النيوليبرالي الحالي؟ هل من الأفضل أن نُركّز على مشاكل بلداننا قبل مشاكل العالم.. وغير ذلك من الأسئلة.

ما شاهدناه منذ 2001، يشي أنّ الحراك العالمي صار حراكات: الربيع العربي (مع نموذج كل دولة على حدة)، حراك “أنا أيضاً” (Me Too)، حراك “حياة السود مهمّة” (Black Lives Matter)، وغير ذلك، ولم يُؤدّ أيٌ منها إلى النتائج المرجوّة. لكن عمليّة حماس أعادت ضخ الحياة في فكرة الحراك العالمي وضرورته، وهو كان في خمسينيات وستّينيات القرن المنصرم السبب في إحداث تغييرات جوهريّة في شتى أنحاء العالم.

مغامرة حماس إما ينطبق عليها قول من قال: “ربّ رمية من غير رامٍ”، أو علينا الإقرار أنّ حماس كانت.. نبيّاً وأكثر.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  فوضى الحواس من المختارة إلى البيت الأبيض