يرتبط الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بصداقة مميزة برئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، ناهيك عن انحيازه الفاضح للكيان “الإسرائيلي”، وهو قدّم لها في ولايته الأولى ما لم يُقدمه من حكموا الولايات المتحدة من قبله، ولا سيما لجهة الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان كما الاعتراف بسيادة “إسرائيل” على مرتفعات الجولان السورية المحتلة ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس واغلاق القنصلية الأمريكية في القدس كما دافع عن قانونية الاستيطان في الضفة الغربية وانسحب من الاتفاق النووي بضغط من اللوبي الإسرائيلي، فضلاً عن إبرام عدد من الاتفاقيات الإبراهيمية.
غير أن مزاجية ترامب وشخصانيته تجعل المراقبين في حالة حيرة إزاء النهج الذي يُمكن أن يتبعه في ولايته الثانية كما يشكك الكثير منهم في نواياه باحلال السلام في الشرق الأوسط في ظل انفلات الفاشية الصهيونية بقيادة نتنياهو من أي عقال لها في عدوانها على لبنان وفلسطين المحتلة، لذلك تصبح الضبابية في هذه المرحلة سمة أساسية ويُصبح التساؤل مُبرراً عن السياسة التي سيتبعها ترامب حيال الحروب في الشرق الاوسط والحرب الروسية الأوكرانية وحيال الحرب الباردة مع الصين (على خلفية قضية تايوان وأمور أخرى).
وفي محاولة لتلمس المنحى الذي سيسلكه ترامب لا بد من قراءة بضعة امور، وأولها أن ترامب في ولايته الثانية رئيساً للولايات المتحدة سيكون حاكماً مطلقاً للبلاد لا يواجه معارضة في أي من المؤسسات الدستورية، إذ إضافة إلى كونه رئيساً، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وقد نجح حزبه الجمهوري في السيطرة على غالبية مجلس الشيوخ كما السيطرة على غالبية مجلس النواب، فضلاً عن امتلاكه غالبية أصوات المحكمة العليا، أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة.
كل ذلك يجعل ترامب طليق اليدين في أي قرار يتخذه إن كان في الشأن الداخلي أو في الشأن الخارجي. ولأن ترامب لا يملك الصلاحية القانونية للترشح لولاية رئاسية ثالثة فإنه أيضاً سيكون متحرراً من ضغوط أي لوبي انتخابي قوي في البلاد ولا سيما اللوبي اليهودي. زدْ على ذلك أهمية عنصر الوقت، اي الإنجاز في السنوات الأربع من دون تضييع أي دقيقة من الوقت طالما أن سقف طموحه ينتهي عند حدود الولاية الثانية والطموح بالفوز بجائزة نوبل للسلام!
من هنا، يتبدى أن أي توجه سيتخذه ترامب خلال سنوات ولايته سيكون سالكاً للتنفيذ من دون أية معوقات جدية. ولأن ترامب رجل أعمال بامتياز فإنه يميل بطبيعته المهنية إلى عقد الصفقات بدلاً من المواجهات التي عادة ما تكون أكثر كلفة من التسويات، وبالتالي سيسعى إلى عقد صفقات لمعالجة الحروب والتوترات التي تنخرط فيها بلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ترامب سيسعى لإنهاء حالة الحرب السائدة في فلسطين المحتلة ولبنان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه إن كان سيتمكن من ذلك عبر مؤازرة جهود إدارة الرئيس جو بايدن خلال الشهرين ونيف المتبقيين من عمر هذه الإدارة أم أنه سيعطي نتنياهو وحكومته الفاشية فترة سماح لمواصلة التوحش والإجرام والإبادة الجماعية في جبهتي القتال حتى يتولى رسمياً مقاليد السلطة في واشنطن
من خلال هذه الرؤية، وإيغالاً في منطق التوجه لإبرام التسويات، فإن ترامب سيكون جاداً في الإسراع بسلوك هذا المنحى وفق الأولويات التي تتماشى مع المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وهنا تبرز حالة الحرب في أوكرانيا كموضوع يحتل رأس سلم الأولويات لديه، لأن هذه الحرب استننزفت الكثير من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين منذ انطلاقتها قبل ما يقارب الثلاثة أعوام، والوصول إلى تسوية في هذه الحرب لن يكون بالأمر العسير على ترامب لسببين، الأول أن لديه مقدرة كبيرة في ممارسة الضغط على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بسبب كون واشنطن المزوّد الأول لأوكرانيا بالسلاح والذخائر، والثاني هو العلاقة المميزة بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
على خط المواجهة الباردة مع الصين، لن يواصل ترامب لغة التصعيد التي أرساها سلفه جو بايدن بل سيسعى إلى تبريد الأجواء الحامية والعمل على صناعة تسوية لن تكون القيادة الصينية بعيدة عن تلقفها، لا سيما إذا لمست احترام ترامب لمطالبها ولا سيما في قضية تايوان.
بعد أوكرانيا، تحتل حروب الشرق الأوسط ثاني موقع في سلم أولويات ترامب، فالعدوان الوحشي “الإسرائيلي” على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان بات يحمل في طياته بذور انتشار وتوسع الحرب، بما يُهدّد مصالح الولايات المتحدة وربما السلم العالمي، وهنا بالامكان القول إن الأمور أكثر تعقيداً من الوضع في أوكرانيا بسبب تعدد اللاعبين وتشددهم. وفي قراءة لمواقف هؤلاء اللاعبين، لا بد من البدء من عند الحكومة الفاشية الصهيونية التي ترى في أي تسوية حالياً ضرباً لكل الانجازات العسكرية التي تحققت على مدى الأشهر الثلاثة عشر المنصرمة، كون كل هذه الانجازات لم تستطع حتى الآن أن تحقق الأهداف المعلنة، وهي القضاء على المقاومة في قطاع غزة وتحرير الأسرى “الإسرائيليين” لديها، وإعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين بعد إبعاد خطر المقاومة اللبنانية عنهم. كما أن من شأن أية تسوية حالياً أن تُفجّر الوضع داخل الحكومة الفاشية الصهيونية وتطيح بها.
وماذا عن إيران؟ أنها الهدف الرئيسي للعدوان الذي أطلقته “إسرائيل” ضد المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان، إذ من خلال هذا العدوان طمحت القيادة “الإسرائيلية” إلى تقطيع ما تعتبره أطراف ايران وأذرعتها في الشرق الأوسط قبل ضرب الرأس، أي النظام في إيران نفسها، ولم يُخفِ نتنياهو هدفه هذا عندما أعلن أكثر من مرة أن “إسرائيل” تخوض معركة تغيير وجه الشرق الأوسط، كما أنه ترجم أقواله إلى أفعال عبر سلسلة الهجمات التي شنّها الطيران الحربي “الإسرائيلي” على أهداف إيرانية في كل من دمشق وطهران. وأمام هذا الوضع، تجد القيادة الإيرانية نفسها في وضع لا تُحسد عليه؛ من جهة، يتعرض حلفاء إيران في الإقليم لهجوم “إسرائيلي” شامل، فيما تتولى الولايات المتحدة وبريطانيا ضرب هؤلاء الحلفاء في العراق واليمن، ومن جهة ثانية، تستمر إيران عرضة لمحاولات حثيثة مستمرة من أكثر من سنة لجرها إلى حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وأمام هذا المشهد، وبعد انتخاب ترامب رئيساً، تراجع حديث القادة الإيرانيين عن الرد على آخر ضربة “إسرائيلية” على إيران، وانكبت دوائر القرار وعلى رأسها المرشد آية الله علي خامنئي لدراسة المرحلة الجديدة من المواجهة في ظل ارتفاع الاصوات في الداخل الايراني للتعامل بواقعية مع الوضع المستجد لجهة فتح باب التفاوض المباشر مع أمريكا، وهو أمر لطالما رفضه الإمام الخامنئي وقبله مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله الخميني.
وهنا لا بد من الانتظار لمعرفة كيف سترسو الامور، هل سيكون هناك مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة؟ وهل ستكون المفاوضات شاملة لكل الملفات الشائكة بين البلدين بدءاً من لبنان وفلسطين المحتلة وسوريا وصولاً إلى العراق واليمن والملف النووي أم أن إيران ستتمسك بموقفها الثابت في ولاية ترامب الاولى بأن لا نقاش بالجملة، وأنها معنية بمناقشة ملفاتها وليس ملف أي من حلفائها؛ وهذا الأمر يقود إلى تقدم الملف النووي على ما عداه، لأن التوصل إلى اتفاق نووي جديد من شأنه أن يؤدي إلى رفع العقوبات الإقتصادية عن إيران. وبالحالتين، لن تكون المفاوضات سهلة بل طويلة الأمد، الأمر الذي لا يمكن أن يحتمله الوضع المتفجر في الشرق الأوسط.
ومن المرجح أن يعمد ترامب إلى فكفكة الملفات عن بعضها البعض والعمل من الأسفل إلى الأعلى، أي البدء بتثبيت ما حقّقته “إسرائيل” من انجازات عسكرية في أي اتفاق لوقف اطلاق النار في لبنان وغزة، لأنه في حال استمرار الحرب قد يؤدي الصمود الأسطوري الذي أبدته المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان إلى قلب مشهد الانجازات وجعلها خيبات، لذلك إذا نجح ترامب، حتى قبل توليه رسمياً منصبه الرئاسي في التوصل إلى وقف لاطلاق النار فإنه سيُنهي الإسناد الذي تقدمه اليمن والمقاومة في العراق لجبهتي لبنان وغزة، وبالتالي يعيد الدورة الاقتصادية في البحر الأحمر والخليج العربي إلى طبيعتها ويبقى بعدها التوجه لمناقشة الملف النووي الإيراني.
مما لا شك فيه، أن ترامب سيسعى لإنهاء حالة الحرب السائدة في فلسطين المحتلة ولبنان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه إن كان سيتمكن من ذلك عبر مؤازرة جهود إدارة الرئيس جو بايدن خلال الشهرين ونيف المتبقيين من عمر هذه الإدارة أم أنه سيعطي نتنياهو وحكومته الفاشية فترة سماح لمواصلة التوحش والإجرام والإبادة الجماعية في جبهتي القتال حتى يتولى رسمياً مقاليد السلطة في واشنطن. قد يُعطي اللقاء الذي سيعقده ترامب مع بايدن في البيت الأبيض غداً (الأربعاء) أولى إشارات الجواب على هذا السؤال، برغم أن التسريبات الأولية للتعيينات المرتقبة في الإدارة الجمهورية الجديدة، ولا سيما ما سرّبته “نيويورك تايمز” عن توجه ترامب لتعيين مارك روبيو وزيراً للخارجية، تطرح علامات استفهام أيضاً حول ما ستكون عليه توجهات السياسة الخارجية، برغم أن ترامب كان يتباهى خلال ولايته الأولى بأن السياسة الخارجية المثالية بالنسبة إليه “هي إبقاء العالم في حيرة وعدم القدرة على التنبؤ بشيء”، أي أن اليقين الوحيد مع ترامب “هو عدم اليقين”، حسب “نيويورك تايمز”.