ما أكثر علامات الطريق دولياً وإقليمياً.. نحو المجهول!

علّمونا في المدارس ثم في الجامعات ثم في سنوات الممارسة العملية كما العلمية قراءة وتحليل علامات الطرق الموصلة إلى المستقبل. كنا نخطئ، وفي بعض الأحوال ومع مرور الوقت والاجتهاد كنا نصيب. أصبنا في بعض محاولات استشراف مستقبل المراحل الانتقالية في النظام الدولي وهي بلا شك الأصعب في الرؤية أو التخمين وأخطأنا في أكثرها.

نحن الآن، وأقصد البشرية في وضعها الراهن، على أبواب مرحلة انتقالية تبدو من كثير من علامات الطريق المؤدية إليها أنها ربما تكون من نوع المراحل الأشد غموضاً مقارنة بمراحل عديدة تابعناها في كتب التاريخ وبخاصة في القرون والسنوات الأخيرة.

 ***

قمت في الأيام الأخيرة بتجميع عدد من هذه العلامات قابلتني خلال محاولة استطلاعية لاستشراف مصيرنا كبشر في عالم ينتقل من حال إلى حال جديد تماماً وكأمة في نظام إقليمي ينتقل بدوره وتحت أقصى درجات العنف والتآمر والتشدد الديني أو القومي من حال إلى حال؛ نظام إقليمي ما يزال مجهولا لجمهرة الباحثين وما يزال عصياً على فهم وربما على إرادة جماعات صنع السياسة والقرار في عالمنا العربي.

أعرض في السطور الآتية، وبدون ترتيب أولويات، بعضاً من هذه العلامات المحيرة والمثيرة للجدل وكثير من الغضب.

***

أولاً؛ شخص دونالد ترامب، بصفاته العديدة وبعضها خارق للمألوف، وبموقعه رئيساً لدولة هي القطب الأقوى، وليس الأعظم، في النظام الدولي بشكله الراهن. صفاته بلا شك عديدة واجتماعها في شخص واحد صدفة مذهلة. من هذه الصفات ما يصنف تحت عنوان علل نفسية نوقشت وتناقش في دور العلم وأجهزة الاستخبارات لن ندخل في تفاصيلها باستثناء صفة النرجسية الشديدة والمتفاقمة بسبب تقدم العمر ودورها في صياغة متغيرات وصنع ظروف وأحوال تتعلق مباشرة بالحالة الانتقالية. يحسن في البداية التصريح بأن ترامب متغير فريد بين متغيرات في جماعة تصنع السياسة وتتخذ القرار وتحوز على الحق المطلق في إصدار قرار الحرب.

***

ثانياً؛ مصير يتكرر لشعب أعزل، أقصد الشعب الفلسطيني القاطن غزة والضفة الغربية. يتعرض هذا الشعب لما سبق وتعرضت له أمة سكنت قارة أمريكا الشمالية قبل قرنين من عمليات تهجير بالحرب والتجويع والمطاردة من مكان لآخر حتى تحققت الإبادة. أبيدت القبائل واحدة بعد الأخرى وفي النهاية امتدت الإبادة إلى الأمة باستثناء أقلية أسكنتهم حكومة المستوطنين البيض في “معازل” مغلقة. أعلم علم اليقين أن هذا المصير يعيش في وعي كل فلسطيني يُهدّد استقراره وطموحاته ويبقى دافعاً قوياً له ولأولاده ولأحفاده من بعده للانتقام والمقاومة. نحن شهود على فشل كل المحاولات الراهنة لفرض شرط محو المقاومة من وعي الإنسان في غزة والضفة في إطار اتفاق سلام يعقد بين الاحتلال وهذه المقاومة.

***

ثالثاً؛ كان ظهور “كير ستارمر” على مسرح المرحلة الانتقالية للعب دور في ساحة معبأة باليأس والخوف والغضب مفاجأة للكثيرين في أوروبا ولترامب نفسه. ففي غياب لاعب فاعل في أوروبا، وفي خضم حملة “إنكار” أمريكي لوجود أوروبا لاعباً أساسياً في هذه المرحلة، وفي وقت اشتعال أزمات سياسية في كل من فرنسا وألمانيا وجنوح كل من إيطاليا وأسبانيا إلى جانب المعارضين لأمريكا الترامبية وموقفها من قضية أوكرانيا، وفي ظل غضب عارم في جميع دول البلطيق من أسلوب تعامل ترامب مع رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي واعتبار هذا الأسلوب في التعامل درساً موجهاً لكل الدول المتاخمة لروسيا وبخاصة بولندا، في ظل هذه العوامل مجتمعة أظهر كير ستارمر رئيس وزراء المملكة المتحدة شجاعة فائقة في محاولة لإنقاذ أوروبا. عرض الاستعداد لتعود بريطانيا لملء فراغ القوة في الاتحاد الأوروبي برغم أن بلاده سبق وتمردت على عضويتها في برامج تكامل أمني وسياسي للقارة الأوروبية. كان ستارمر أول من تحرك لتخفيف الواقع الرهيب الذي خلفه اللقاء العاصف والحامل لكثير من المغزى والمعنى بين ترامب وزيلنسكي في المكتب البيضاوي.

مرة أخرى عادت بريطانيا، وليست فرنسا ولا ألمانيا ولا روسيا، لتلعب دور القوة الموازنة الذي مارسته خلال اهتزازات نظام توازن القوة في القارة الأوروبية، هذه المرة راح ستارمر يطبق الدور في نظام الحلف الغربي إن صح التعبير. أظن أنه انتبه إلى أن تطوراً غير مألوف في نظام الحكم داخل الولايات المتحدة مسئول عن حال الحلف وأنه لا بد من التدخل بالسرعة الممكنة لإصلاح الخلل بتوحيد أوروبا لتتمكن من مواجهة القطب الأمريكي المتجاوز لكل الحدود الدبلوماسية والمتلاعب بمصائر وأوضاع حلفائه، مثلما يفعل مع أوكرانيا ومع مجموعة الدول العربية الحليفة ومع بنما وكندا والمكسيك.

لاحظنا أن ستارمر تفادى دعوة دول البلطيق لمؤتمر القمة الأوروبية مراعاة لظروفها واحتمال رفضها الانصياع لبعض سياسات قد يفرضها ترامب ضمن تحالفه المتطور مع روسيا؛ إجراءٌ تكرّر في دعوة عدد من الزعماء العرب لمؤتمر التنسيق لقمة القاهرة الإستثنائية ولأسباب شبيهة.

***

رابعاً؛ لاحظنا أنه في لحظة الغضب والخوف على مصيره الشخصي لجأ الرئيس زيلينسكي إلى الأملين الباقيين، وهماً بترتيب ما فعل، الأول، لجأ إلى الصهيونية العالمية التي ينتمي إليها بالدين والمجاهرة بدعم مبادئها التوسعية في فلسطين والثاني إلى أوروبا وبالتحديد العنصر القادر في تلك اللحظة وهو بريطانيا، وحليف عضوي لأمريكا، إن ابتعد عنها فإلى غير بعيد وإن اختلف معها فلصالح تحالفهما.

إقرأ على موقع 180  بيرنز: التعامل مع إيران مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة

***

خامساً؛ مرة أخرى تتقدم تركيا باقتراح أن تتدخل لدى الأطراف المعنية داخل حلف الناتو لتقريب وجهات النظر وبخاصة المتعلقة بقضية الأمن الأوروبي. تتصور تركيا أنها بصفتها مالكة لثاني أكبر جيش في الحلف بعد بولندا تصبح الأقدر على تجميع الآراء وقيادة الاتصالات الضرورية لتحقيق هدف إقامة قوة عسكرية أوروبية مستقلة نوعاً ما عن الولايات المتحدة.

لا يخفى أن الأوروبيين مدركون أن هدف تركيا كان ولا يزال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما ترفضه أوروبا برغم المحاولات الدائبة من جانب أنقرة مستغلة الظرف الذي تراه مناسباً.

***

سادساً؛ مرة بعد أخرى يلاحظ مفكرون أوروبيون وأمريكيون أن أمريكا وروسيا صارتا تتشابهان في أمور تتزايد بمرور الوقت. لم تعد الأيديولوجيا عامل افتراق واختلاف، استمرت سياسات الدولتين تتجه نحو التوسع في السيطرة والهيمنة؛ زيادة مطردة في اعتماد النخبة الحاكمة في الدولتين على جماعة المطورين؛ أقصد المقاولين الكبار وهي الجماعة التي صار لها دور معترف به في صنع السياسات الداخلية والخارجية للبلدين وبلاد أخرى.

أضف إلى ما سبق الميل المتزايد في روسيا لاستخدام أساليب ديكتاتورية في الحكم والميل المتزايد في أمريكا نحو استخدام أقل للأساليب الديموقراطية في الحكم، وبطبيعة الحال تتأثر السياسات الخارجية بهذا الميل في السياسات الداخلية كما اتضح مؤخراً في تعامل إدارة الرئيس ترامب مع قضية فلسطين وتعامل روسيا مع أوكرانيا.

اتضح أيضاً بشكل بارز في الميل المتزايد لاستخدام أساليب استعمارية قديمة في تعامل إحداهما مع قضية تهجير شعب غزة لإقامة ريفييرا سياحية ومع أوكرانيا للاستيلاء بالابتزاز على الثروة المعدنية لأوكرانيا، ولا تخفي على أحد المصلحة الروسية في الهيمنة على ثروات أوكرانيا الزراعية والنفطية والمعدنية. كلاهما يطبقان استعمار رجل أبيض على رجل أبيض بعد أن كان مفهوم الاستعمار يرتبط فقط بهيمنة الرجل الأبيض على الإنسان الأسود.

***

ما أكثر علامات الطريق. اخترت بعضاً قليلاً منها وبقي الكثير في انتظار مناسبات أخرى تفرز عند حدوثها أو في أعقابها علامات جديدة أو تؤكد وتثبت علامات قائمة بالفعل. نبقى في انتظار أحداث داخلية في أمريكا أغلبها مرتبط بوجود عنصر غريب ومثير للجدل في أداة الحكم، بل وفي قلبه وأقصد في المكتب البيضاوي إلى جانب الرئيس وبعضها متعلق بتطور الأمور في الشرق الأوسط وبخاصة استمرار إسرائيل في انتزاع إقليم بعد إقليم أو أقلية بعد أقلية من وطنها الأم ووضعها تحت الحماية أو الاحتلال الصهيوني، واحتمالات رد فعل النظام الإقليمي العربي ابتداء من احتمال تكرار العجز المؤقت للنظام في مواجهة كل حالة على حدة وانتهاء باحتمال انفراطه نهائياً.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  استقرار نظام "الحرب الباردة".. وأفق الصراع الأوكراني