لا يستقيم أمر الهوية إلا بالدولة. ولا يستقيم أمر الدولة إلا بأن هذه تستعلي وتكون ذات أولوية على كل الهويات الجزئية في المجتمع. ما لم تكن الهوية في الدولة فإن الهويات الأخرى من الطائفية إلى العشائرية إلى الإثنية إلى العائلية تكون عبئاً. وما لم تتحكم الدولة بكل الهويات المذكورة، وبكل ما يشبهها، فإن المجتمع معرّضٌ لصراعات، قابلة لأن تصبح حرباً أهلية، أو حروباً داخلية مدمّرة بين من يدعون لأنفسهم السلطة أو السلطات في المجتمع.
أن تعلو الدولة على ما عداها وأن تتمكّن من كل ما عداها من سلطات هو ما يُبقي المجتمع موحّداً. الدولة هي المطلق الوحيد بين كل العلاقات الاجتماعية. هي ما يجب أن يكون المنفذ الوحيد إلى الخارج وإلى الكون، وإلى أسبابه أو سببه المقدّس، أو غير المقدّس عند من لا يُقيمون للقداسة اعتباراً.
تنشأ الدولة لا بعقد اجتماعي بل بالغلبة أو مجموعة أحداث متراكمة في تأثيرها. لا يجتمع الناس كلهم ليعقدوا أمر العيش سوية في دولة. وهم لا يستطيعون ذلك إذ لا يتسع لهم مكان. هُم يُفوّضون أمرهم إلى من ينوب عنهم بعد قيام الدولة، وخير الإنابة ما كان تمثيلاً ديموقراطياً ينتج عن المواطنة. فالاستبداد لا يُلغي الديموقراطية وحسب، إنما يلغي المواطنة أيضاً، بما هي عضوية في المجتمع وفي الدولة. وبالتالي، بما هي إرادة ورغبة في أن يجد المرء ذاته في الآخر، ويجد الآخر في ذاته، في إطار المجتمع-الدولة.
لا يمكن العيش سوية من دون دولة هي قبل كل شيء إطار ناظم للمجتمع. فأن يجد المرء نفسه في الدولة هو ما يؤسس للمواطنة. ولا تتشكّل الدولة الحديثة إلا من مواطنين. فأتباع الطوائف، بالأحرى أكباشها، ليسوا مواطنين، إذ لم يعتبروا الدولة والهوية (في إطارها) فوق كل الهويات الأخرى، التي هي حتماً جزئية، وأسمى منها.
عندما تتسامى الدولة تكون المواطنة حقيقية، ويكون المرء شريكاً فعلياً في المجتمع. وما القرار، قرار الدولة، إلا مجموع إرادات أفراد المجتمع. وهذا يُعيدنا دائماً إلى الديموقراطية التي هي ليست مجرد انتخابات وحريات تعبير وتظاهر، وما إلى ذلك. الديموقراطية هي ذلك الشعور الدائم بالغبطة لدى الفرد بأنه شريك على “قدم المساواة” في كل ما يحدث، ويتماهى الفرد في الدولة وتتسامى هويته إلى أن تتطابق معها.
يُدمّر الاستبداد كل ذلك، إذ يُلغي المواطنة، وبالتالي يُلغي الدولة ويفرض على كل فرد علاقة خارجية. بالأحرى سيطرة من خارج الضمير. مما يستدعي فرض إرادات خارجية تبدأ مع الاستبداد وتنتهي بالإمبريالية التي ما خرجت من بلادنا بل جدّدت نفسها مع الإستبداد حيث يكون ويستمر في بلداننا العربية.
تنشأ الدولة لا بعقد اجتماعي بل بالغلبة أو مجموعة أحداث متراكمة في تأثيرها. لا يجتمع الناس كلهم ليعقدوا أمر العيش سوية في دولة. وهم لا يستطيعون ذلك إذ لا يتسع لهم مكان. هُم يُفوّضون أمرهم إلى من ينوب عنهم بعد قيام الدولة، وخير الإنابة ما كان تمثيلاً ديموقراطياً ينتج عن المواطنة. فالاستبداد لا يُلغي الديموقراطية وحسب، إنما يلغي المواطنة أيضاً
الاستبداد، ليس وليد إرادات الناس بل هو ما يُفرض عليهم. وما يُفرض لا ينبع من الذات بل من خارجها، وهذا ما يُفكّك المجتمع، بإلغاء المواطنة، ويُدمّر الدولة، ويجعل الأمر وسيلة التحكم، وتصير العلاقة بين الفرد والسلطة علاقة سيطرة لا مشاركة، ويضطر من كان مواطناً إلى الإذعان، وإظهار اقتناعه بما تمليه السلطة عليه، ولو كان عكس ما يتطلبه ضميره. هكذا تتلاشى العلاقات بين الأفراد، إذ تحل العلاقة العمودية بين الفرد والسلطة. وينعزل الفرد عن المجتمع، ولا يمضي وقتٌ حتى تكون العلاقات الاجتماعية قد تذرّرت أي دُمّرت.
السيادة تجاه الخارج لا تتحقق إلا بتسيّد المجتمع على نفسه في الداخل حيث سيادة المجتمع في الدولة وعليها. وعندما تنعكس هذه العلاقة لا يستقيم أمر الهوية التي لا تكون إلا باتجاه واحد دونه الخضوع الدائم للإمبريالية التي يُقال عنها أنها عادت إلى بلادنا، وهي لم تترك ولم تخرج لتعود بل كان استمرارها من خلال الاستبداد السائد في جميع الاقطار العربية عدا لبنان.
سيادة المجتمع على نفسه تُلغيها الإمبريالية كما يُلغيها الاستبداد بنفيه المشاركة الإرادية. وعادة ما تعمل الإمبريالية من خلال حكم الاستبداد دون الحاجة إلى احتلال مباشر. وقد رأينا الحروب تُدار عن بعد (online) دون الحاجة للجيوش البرية إلا لأمور أخرى تُنفّذ بعد أن يُقضى على القوى المقاتلة المحلية وتصير المنطقة خالية من أهلها.
الهوية بما هي انتماء والتزام ومشاركة يلزمها أن يكون التبادل، تبادل الرأي في صنع القرار باتجاهين، أحدهما من السلطة إلى الفرد والأخرى من الفرد إلى السلطة. الأولوية في العلاقة للناس، إذ الأمر يتعلّق بهم قبل غيرهم. هم مصدر السلطة في بلد ذي سوية أو ما يسمى ديموقراطية. الهوية ليست ما يُفرض (من الغير أو الخارج) بل ما يُراد للفرد (في إطار الدولة وفي علاقة الدولة بالخارج).
لا يتنافى كل ذلك مع التعددية. فالطوائف وأكباشها، والعشائر وزعماؤها، والإثنيات وقادتها (وما شابه ذلك) يتوجب عليها أن تخضع مطالبها لضرورات الدولة، وأن تخضع هوياتها للهوية العليا والسامية. وهي ما يتعلّق بالدولة. تسامي العلاقة في الدولة وبها على الهويات الأخرى هو مصدر السوية في المجتمع.
يبدأ النهوض، والخلاص من الهزيمة، بانتصارنا على الذات. والإنسان عميق الغور. وما يحتاج إلى نقد قبل كل شيء هو ما في ذاتنا التي عليها أن تتحرر من قيودها التراثية والدينية لانطلاق إلى العالم واستيعابه فيها. وما تأخرنا، الذي هو قاعدة الهزيمة، إلا نتيجة اكتفائنا بذاتنا وتقوقعنا في ماضينا
ليست التعددية عيباً، بل يكون الأمر كذلك عندما تخدم الهويات الجزئية جماعاتها دون الدولة، فتصير السلطة فوق المجتمع، آمرة له، وهو خاضع لها. ولا يصبح الأمر سوياً إلا بالسياسة. وهي تراكم تسويات بين الآراء والمصالح المختلفة. وهي السياسة بمعنى إدارة المجتمع لا مجرد الصراع على السلطة، الذي هو ضروري على كل حال، لكنه يستقيم بأن تخضع علاقات الهويات الجزئية للهوية العليا المتسامية، وهي الدولة. حينها تصير الدولة إطارا ناظماً للمجتمع لا مجرد نظام للحكم والسيطرة. يعني ذلك أن تعلو السلطة برضى مجتمعها حين يكون أعضاؤها أحراراً (لا استبداد بهم)، وحين تكون إرادتهم الجماعية هي ما يُوجّه السلطة ويُشكّل الدولة.
في هذا الوضع، تكون الدولة تمكيناً للمجتمع بأفراده والتسويات بينهم وبين جماعاتهم، وتكون هي المطلق الوحيد، وحينها يُمكن فصل الدين عن الدولة. فلكلّ مجاله، حيث العلاقات بين الأفراد والخالق إيمان لا شأن له بأمور الدنيا التي تكون هي مجال السياسة.
الفصل بين الدين والدولة، هو شعارٌ قديمٌ لم يتحقق، لأن مجال الدين لم ينحصر في الإيمان ومجال الدنيا لم يُعمّم كي يُشكّل الأساس الوحيد للتعاطي الدنيوي. الأصولية الدينية هي عندما يكون الدين مخترقاً كل مجالات المجتمع لا منحصراً في مجال الخاص، ومقتصراً على الإيمان والعلاقة بالخالق، في اتجاه عمودي صرف؛ وتكون كل العلاقات الأفقية، بين الأفراد، هي ما تُبنى عليه السياسة. حينها لا تكون العلاقة مع الخارج امبريالية تسلطية، ويُحقّق المجتمع سيادته على نفسه، التي تنبثق منها سيادة الدولة.
يبدأ النهوض، والخلاص من الهزيمة، بانتصارنا على الذات. والإنسان عميق الغور. وما يحتاج إلى نقد قبل كل شيء هو ما في ذاتنا التي عليها أن تتحرر من قيودها التراثية والدينية لانطلاق إلى العالم واستيعابه فيها. وما تأخرنا، الذي هو قاعدة الهزيمة، إلا نتيجة اكتفائنا بذاتنا وتقوقعنا في ماضينا وعدم تحوله إلى تاريخ نصنعه، ويكون المستقبل جزءاً منه. الرؤية التاريخية هي غير الماضوية. ففي الرؤية التاريخية تطلّع إلى المستقبل لصنعه، بينما الرؤية الماضوية انحباس في الماضي والتراث. في الرؤية التاريخية نكون صانعين ومبادرين. وفي الرؤية الماضوية نكون مستسلمين منهزمين، ولا تنفعنا التكنولوجيا حينذاك، بل يكون الماضي مضافة إليه التكنولوجيا المستوردة عبئاً علينا. وقد رأينا التكنولوجيا المتقدمة تنتصر على التكنولوجيا المتأخرة.
الدولة تُصنع والأمة مُعطاة. ولا بدّ أن تتحقق أمة ما من دولنا إذا أرادت مجتمعاتنا ذلك. عندما تكون الأمة مستقبلية لا مُعطاة (يفرضها علينا التراث)، بالأحرى يفرض علينا شبحها والوهم بها. تصير الأمة قابلة كي تُصنَع بإرادتنا. والإرادة فعل تحدٍ ومواجهة مع الذات قبل كل شيء. فنواجه الخارج بوعي متحفّز مشبع بالتساؤلات وروح وثّابة. وعلينا أن نُعطي الأولوية للدولة، قطرية أو غير ذلك، على الأمة وأشباحها، بممارسة لواقع الدولة وتفسير مجازي لمفهوم الأمة.