

مرّت أول مئة يوم على ولاية ترامب وسط حالة من التخبط في الإقتصاد العالمي تسببت بها سياسة رفع التعريفات الجمركية؛ هذه “الحرب” شبّهها الخبراء بأنها حرب اقتصادية عالمية تستهدف بنيرانها المالية الصين، ثاني أقوى اقتصاد عالمي، برغم أن شظاياها أصابت حلفاء واشنطن في كل مكان. وعلى الرغم من خطورة هذه الحرب على السلم العالمي، فإنها تُشكّل ستاراً إعلامياً للتغطية على فشل ذريع لسياسة صفر حروب التي طرحها ترامب في حملاته الانتخابية لا سيما في أوكرانيا والشرق الأوسط، ويظهر جلياً أن فشله هذا نابع ليس فقط من صمود أعدائه بل من تعنت حلفائه ورفضهم الانصياع لإملاءاته.
إن التقييم الواقعي لسياسة ترامب في المئة يوم الأولى من ولايته الرئاسية لا يحتاج إلى الكثير من الدرس والتمحيص للاستنتاج بأنه فشل حتى الآن في وقف الحرب في أوكرانيا التي قال إنه سينهيها خلال 24 ساعة من توليه الرئاسة، فها هي الحرب ما تزال مستمرة وتحصد المزيد من الأرواح على الرغم من استقباله حليفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في لقاء عاصف انتهى بطرد الأخير بطريقة مهينة وغير مسبوقة في العلاقات الدبلوماسية بين الدول قبل أن تجمعهما مجدداً، قبل أيام قليلة، مناسبة تشييع البابا فرنسيس في روما. لذا يمكن القول إن الإنجاز الوحيد الذي حقّقه ترامب هو تمكنه من فرض خوة مالية على أوكرانيا تساوي مئات المليارات إضافة إلى جعل الثروات الأوكرانية أسيرة الولايات المتحدة. إذ أن ترامب ألزم زيلينسكي باتفاق استخراج المعادن الثمينة لمصلحة الولايات المتحدة، على أن تكون أول 500 مليار دولار من عائدات هذه العملية بمثابة استعادة لكل ما قدّمته واشنطن من مساعدات وقروض لأوكرانيا خلال السنوات الثلاث الماضية من عمر الحرب. وقد حاول زيلينسكي الممانعة في البداية لكن بعد أن طرده ترامب من البيت الأبيض عاد ورضخ وفاوض على المبلغ وليس على المبدأ، مطالباً واشنطن بأن يكون المبلغ فقط 350 مليار دولار فيما الباقي يعتبر بمثابة مساعدات ومنح. لكن مشكلة زيلينسكي مع ترامب لا تنتهي هنا، إذ أن الرئيس الأميركي يطالبه بأن يُقر بالتخلي عن شبه جزيرة القرم التي أعلنت روسيا ضمّها لأراضيها في العام 2014 والتخلي أيضاً عن أجزاء كبيرة من الأراضي التي دخلتها القوات الروسية خلال الحرب والتي تساوي قرابة عشرين في المئة من مجمل الأراضي الأوكرانية، أي أن يكون هناك اعتراف أوكراني رسمي بخسارة الحرب.
وإذا كان زيلينسكي رضخ في الموضوع المالي – الاقتصادي فإنه يحاول التسلح بموقف الدول الأوروبية لعدم الرضوخ في موضوع الأرض، وهنا تكمن معضلة ترامب في وقف الحرب، إذ أن الحلفاء الأوروبيين يعتبرون خسارة أوكرانيا للحرب بمثابة تهديد وجودي لهم، لأنه سيفتح شهية روسيا نحو المزيد من التوسع أوروبياً. ويضغط ترامب على الأوروبيين للموافقة على شروطه لوقف الحرب الأوكرانية عبر مطالبته دولهم بالقبول بواحد من خيارين: إما برفع موازنة الدفاع لديهم إلى نسبة خمسة في المئة من موازناتهم (هي حالياً لدى معظم دول الاتحاد الأوروبي فقط اثنين في المئة) أو تولي دفع تكاليف القواعد العسكرية الأميركية في هذه الدول.
أما الحرب الثانية التي تعهد ترامب بانهائها فهي الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان، وفي الحالتين ما تزال الحرب مستمرة على الرغم من استقبال ترامب لحليفه رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض وانهاء الاجتماع بنتيجة مُخيبة للأخير. وهكذا فان مشهد هذه الحرب لا يقل تعقيداً لترامب عن وضعه في الحرب الأوكرانية، ففي قطاع غزة رفض العرب من حلفاء واشنطن خطة ترامب لتهجير سكان القطاع إلى كل من الأردن ومصر ودول أجنبية ووضع أميركا يدها على القطاع لتحويله إلى “ريفييرا الشرق”، كما رفض نتنياهو تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف اطلاق النار في القطاع الذي فاخر ترامب بأن إدارته هي التي هندسته وفرضته، وعاد نتنياهو إلى مواصلة الحرب والتنكيل بالفلسطينيين قتلاً وتجويعاً ودماراً بلا وازع أو رادع، ناهيك باستمرار ضغطه على سكان الضفة الغربية بالقتل والمداهمات والاعتقالات.
مقابل هذا الفشل في كل من أوكرانيا وفلسطين ولبنان، بات الأمل الأخير لترامب في احداث نقلة نوعية في سياسته الخارجية هو التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن ملفها النووي، وقد فتح كوة في الجدار السميك لهذه الأزمة من خلال اطلاق مفاوضات غير مباشرة معها، وفقاً للشرط الإيراني، ترجمت بثلاثة اجتماعات، الأول والثالث عُقدا في مسقط والثاني في منزل السفير العُماني في روما، على أن يُعقد اجتماع “رفيع المستوى” السبت المقبل في العاصمة العُمانية
وفي لبنان، فإن إعادة تشكيل المؤسسات الدستورية وفق الهندسة الأميركية تواجه أيضاً معضلة تعنت نتنياهو في مواصلة عدوانه المفتوح براً وبحراً وجواً وانتهاكاً للسيادة اللبنانية وتنفيذ عمليات اغتيال جوية بالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة وفرنسا. وتسعى “اسرائيل” من خلال استمرار احتلالها للتلال الحاكمة في منطقة الحدود مع جنوب لبنان والمضي في عملياتها العسكرية إلى ضرب عصفورين بحجر واحد لبنانياً سواء عبر تشجيع القوى المحلية التي تضغط على المقاومة لتسليم سلاحها أو جعل بيئة المقاومة تشعر بالانكشاف نتيجة انعدام توازن الردع، ناهيك باستمرار الإحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والشطر الشمالي من بلدة الغجر.
ومع الفشل الأميركي الذريع في كل من أوكرانيا وفلسطين ولبنان، أضاف ترامب حرباً جديدة لبلاده ضد “حركة أنصار الله” في اليمن التي وضعت أميركا، الدولة العظمى، في حالة عجز في حربها على شعب بلد فقير إلا من الكرامة والعزة والشهامة؛ شعبٌ يُصرُ على مواصلة اسناده للمقاومة الفلسطينية، باستهداف العمق الإسرائيلي وتعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر بوجه السفن “الاسرائيلية” وسفن الدول الداعمة لـ”إسرائيل” في عدوانها على الفلسطينيين. وباتت هذه الحرب الأميركية تشكل عبئاً عسكرياً ومالياً على الولايات المتحدة بسبب التكلفة الباهظة للأسلحة التي تستخدمها.
مقابل هذا الفشل في كل من أوكرانيا وفلسطين ولبنان، بات الأمل الأخير لترامب في احداث نقلة نوعية في سياسته الخارجية هو التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن ملفها النووي، وقد فتح كوة في الجدار السميك لهذه الأزمة من خلال اطلاق مفاوضات غير مباشرة معها، وفقاً للشرط الإيراني، ترجمت بثلاثة اجتماعات، الأول والثالث عُقدا في العاصمة العمانية مسقط والثاني في منزل السفير العُماني في روما، على أن يُعقد اجتماع “رفيع المستوى” السبت المقبل في العاصمة العُمانية، حسب وزير خارجية سلطنة عمان بدر البوسيعيد، علماً أن ترامب نفسه هو الذي أخرج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران في العام 2018 خلال ولايته الرئاسية الأولى.
وإذا كان التفاؤل الحذر هو سمة الجولات الثلاث الأولى من قبل الجانبين، فإن النافذة الديبلوماسية المفتوحة على مصراعيها لا تنفي احتمالات الفشل وبالتالي الذهاب إلى خيارات عسكرية يُمكن أن تُهدّد الإستقرار الهش أصلاً في كل الشرق الأوسط، ولا سيما في ظل حشود عسكرية أميركية غير مسبوقة في المنطقة ترافقها جسور جوية تسليحية من واشنطن إلى تل أبيب وإلى القواعد الأميركية في المنطقة.
خلاصة القول إن ترامب لم يعجز فقط عن الايفاء بتعهده في انهاء الحروب العسكرية، بل أضاف إليها حرباً جديدة من نوع آخر هي الحرب التجارية التي طاولت نيرانها لقمة عيش مليارات الناس في كوكب الأرض ومن شأنها أن تترك بصماتها على الاقتصاد العالمي لسنوات طويلة مقبلة. إنها حرب التعرفات الجمركية التي طاولت الحليف قبل العدو. فمن “إسرائيل”، الحليف الأقرب لأميركا، التي رفع التعرفة الجمركية عليها 17 في المئة إلى دول الاتحاد الأوروبي التي رفع التعرفة الجمركية عليها بنسب متفاوتة وصل البعض منها إلى 45 في المئة مروراً بالصين التي رفع التعرفة الجمركية عليها إلى 145 في المئة. ومع ردود الفعل الرافضة لهذه التعرفة لدى معظم دول العالم عاد ترامب وتراجع تكتيكياً بأن أعطى فترة سماح من هذه التعرفة لمدة تسعين يوماً لكل الدول باستثناء الصين التي دخل قراره ضدها حيز التنفيذ فوراً والذي ردّت عليه الصين برفع التعرفة الجمركية 125 في المئة على المنتجات الأميركية. وقد أدى قرار ترامب هذا إلى حالة من الفوضى في أسواق رأس المال والبورصات العالمية قدّرت الخسائر الناجمة عنها بتريليونات الدولارات للشركات الكبرى في كل من أميركا وأوروبا. وكان رد معظم حلفاء واشنطن رفضاً للتعرفة الجديدة والتلويح برفع تعرفتهم الجمركية على المنتوجات الأميركية، ومع فترة السماح التي أعطاها ترامب لهذه الدول فإنه يحاول عزل الصين اقتصادياً للتوصل إلى تسويات مع حلفائه الذين يعاني غالبيتهم من أزمات اقتصادية خانقة لا سيما الأوروبيين منهم.
وبين الحروب العسكرية والحرب التجارية فإن أزمات داخلية برزت في واشنطن لا تقل أهمية، حيث يخوض ترامب حرباً ضد جامعات النخب في بلاده وفي مقدمها جامعة هارفرد التي أعلن وقف تمويل أبحاثها العلمية والطبية بقيمة ملياري دولار سنوياً، كما أقفل معظم وسائل الإعلام الرسمية التي كانت تتولى خوض الحروب الأميركية الناعمة وفي مقدمها قناة “الحرة” التلفزيونية واقفال برنامج المساعدات الأميركية لوكالة “يو إس ايدز” كما أنه يستمر بالامتناع عن دفع المساهمة المالية لبلاده إلى الأمم المتحدة والتي تبلغ 28 في المئة من اجمالي موازنتها العامة، ما تسبب بايقاف برامج المساعدات التي تقوم بها المنظمة الدولية للدول الفقيرة ومن ضمنها منظمة الصحة العالمية. وقد أبلغت الأمم المتحدة جميع موظفيها في العالم (يبلغ عددهم حوالي 250 ألف موظف) بخطورة وضعها المالي وأنها قد توقف دفع الرواتب بدءاً من شهر يوليو/تموز المقبل، ويشمل هذا القرار موظفي قوات الطوارىء الدولية العاملة في لبنان (اليونيفيل). وفي تدبير استباقي، أوقفت الأمم المتحدة كل عمليات التوظيف الجديدة لملء الشواغر لديها.
أمام هذا الواقع قالت قناة “كان” العبرية إن مائتي مسؤول أمني أميركي سابق وقّعوا رسالة بعنوان “الهجوم على الديموقراطية: دعوة للتحرك” وقد عبّر هؤلاء في رسالتهم عن قلقهم من “هجوم ترامب وإدارته على ركائز الديموقراطية من الداخل وعلى قوتنا في العالم بشكل يضع الأمن الداخلي للبلاد في خطر”. وتشير استطلاعات الرأي الأميركية إلى ان ترامب يواجه تراجعاً كبيراً في شعبيته، فقد أظهر استطلاع رأي أجرته شبكة “CNN” بالتعاون مع “SSRS”أن نسبة مؤيدي ترامب لا تتجاوز 41% وهي الأدنى أميركياً بين أي رئيس منتخب حديثًا في أول 100 يوم، منذ عهد دوايت أيزنهاور (1953 -1961)، بما في ذلك فترة ولاية ترامب الأولى (2017 – 2021).
وانخفضت نسبة التأييد لطريقة تعامل ترامب مع الرئاسة بمقدار 4 نقاط مئوية منذ آذار/مارس 2025، و7 نقاط مئوية أقل مما كانت عليه في أواخر شباط/فبراير الماضي. وقال 22% فقط إنهم يوافقون بشدة على طريقة تعامل ترامب مع المنصب، وهو مستوى منخفض جديد، وحوالي ضعف هذه النسبة (45%)، قالوا إنهم يرفضون بشدة.
وهذا التراجع مرشحٌ للزيادة، حسب معظم مراكز استطلاعات الرأي، الأمر الذي يطرح السؤال عما إذا كان سيستمر في سياسة “أنا أعمى ما بشوف وأنا ضرّاب السيوف” بوجه حلفائه قبل خصومه!