

سلسلة وقائع لم تكن في حسبان بنيامين نتنياهو. من اتفاق وقف اطلاق النار بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة أنصار الله اليمنية برعاية عُمانية (بالتنسيق مع إيران والسعودية) إلى الاتفاق بين الأميركيين وحركة حماس برعاية قطرية على اطلاق سراح الجندي “الإسرائيلي” الأميركي عيدان ألكسندر مقابل ادخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة والحديث عن انهاء حرب غزة، مروراً وختاماً بزيارة دونالد ترامب التي قال عنها إنها “زيارة تاريخية” إلى الشرق الأوسط (السعودية والإمارات وقطر) ومهّد لها من واشنطن بالقول إن إيران “تتصرف بذكاء وتتحلى بالعقلانية”، من دون ان يُعرّج على “إسرائيل” (حتى الآن) واحتمال أن يتوجه إلى تركيا للمشاركة في القمة الروسية الأوكرانية المقررة هناك يوم الخميس المقبل؛ كُلها خطوات ذات دلالة واضحة إلى أن العلاقة ليست على ما يرام بين ترامب ونتنياهو.
فالاتفاق مع حركة أنصار الله اليمنية تضمن فقط وقف تبادل الهجمات بين الحركة والقوات الأميركية من دون أن يشمل الكيان “الإسرائيلي” ويحميه من الصواريخ الحوثية، وبالتالي هو اعلان أميركي بفشل حرب أميركية بريطانية على اليمن كلّفت الإدارة الأميركية أكثر من مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين وامتدت لأكثر من شهر ونصف الشهر وكان الهدف منها حماية “إسرائيل” من الصواريخ اليمنية؛ أي أن الاتفاق هو اعلان أميركي صريح بفشل هذه الحرب من جهة وعودة السياسة الأميركية إلى براغمتيتها في التعامل مع شؤون الشرق الأوسط وتعقيداته من جهة أخرى، كما أنها تركت “إسرائيل” وحيدة في مواجهة لا تملك القدرة على تحقيق أي انجاز عسكري فيها وبأكلاف مالية باهظة. فما عجزت الإدارة الأميركية عن تحقيقه ولديها ما لديها من قوة عسكرية كبيرة في المحيطات والبحار وعلى أرض دول الخليج لا تستطيع الآلة العسكرية “الإسرائيلية” تحقيقه وهي على بعد أكثر من ألف كيلومتر عن اليمن. والأفدح أن هذا الاتفاق تم من دون التشاور بين ترامب والقيادة “الإسرائيلية” التي عرفت به فقط من خلال وسائل الإعلام.
أما الأمر الأكثر إيلاماً لنتنياهو فهو المفاوضات المباشرة بين المبعوثين الأميركيين وممثلي حركة حماس في الدوحة والذي أسفر عن وضع خارطة طريق تبدأ بالافراج عن الجندي الأسير لدى حماس عيدان الكسندر مقابل إدخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة وإطلاق دينامية سياسية عنوانها وقف الحرب. وكان لافتاً للانتباه أن الأميركيين ألزموا الجيش “الإسرائيلي” بوقف تحليق طيرانه الحربي في أجواء القطاع من أجل فتح ممر آمن لتنفيذ هذا الاتفاق الذي نُفّذ على مسافة ساعات قليلة قبيل وصول ترامب إلى السعودية، في أول زيارة له إلى المنطقة بعد توليه منصبه الرئاسي في يناير/كانون الثاني الماضي، وهذه الخطوة أقلقت نتنياهو لا سيما إذا كان لها ما تتمة كأن يُقدم ترامب على إلزام “إسرائيل” بوقف الحرب المستمرة منذ عشرين شهراً، وهذا أيضاً يجعل نتنياهو يتحسس رقبته سياسياً مما يحيكه ترامب له بعد أن تمرّد عليه في كل من قطاع غزة ولبنان وسوريا.
تسليم ملف المنطقة الساخنة في الشرق الأوسط لتركيا أقل كلفة على أميركا وأكثر مقبولية من أهل المنطقة ومن شأنه أن يُحقّق نتائج أضمن. كلُ ذلكَ لا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها ترامب سيتخليان عن “إسرائيل” وعن حمايتها بالمعنى الاستراتيجي للكلمة
بطبيعة الحال، فإن زيارة ترامب إلى دول الخليج والتي يتخللها حضوره مؤتمر حُكّام مجلس التعاون الخليجي في الرياض ستحمل الكثير من الاستثمارات الخليجية لأميركا، كون الوفد الأميركي المرافق لترامب يضم عدداً من كبار رجال الأعمال الأميركيين، ولكن هذه الاستثمارات ستترافق مع تحقيق بعض المطالب الخليجية، ومنها على وجه الخصوص، وقف حرب الإبادة “الإسرائيلية” على الشعب الفلسطيني، وهذا ما سيحشر نتنياهو ويُعمّق الهوة بينه وبين ترامب.
هذان الاتفاقان ليسا “فلتة شوط” أميركية في السياسة الخارجية، بل إن مراقبة الأداء الأميركي بعد مرور أكثر من مائة يوم على وجود ترامب في البيت الأبيض يؤشران إلى أنه بات أكثر عقلانية في التعامل مع الأزمات الدولية مما كان عليه في ولايته الأولى، والمؤشرات على ذلك عديدة وأبرزها فتح كوة في جدار الحرب التجارية إثر مفاوضات مباشرة مع الصين في جنيف أسفرت، بحسب اعلان الطرفين، عن تخفيض هذه الضرائب بنسبة 115 في المئة.
وتزامناً مع هذه النتيجة، تدخل ترامب مباشرة لوقف الحرب بين الهند وباكستان، وهما دولتان تمتلكان أسلحة نووية، حتى من دون التشاور مع الحليف الهندي الأقرب إليه، وفي ذلك أيضا رسالة ترويضية مباشرة لنتنياهو. فما هي “إسرائيل” مقارنة بالهند التي يبلغ عدد سكانها حوالي المليار ونصف المليار نسمة وتقع في منطقة جغرافية حسّاسة على مقربة من الصين وروسيا؟
وإن كان من السابق لأوانه معرفة الدور الأميركي في اعلان حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان عن حل نفسه والقاء سلاحه، وهو فصيل يساري كان يخوض كفاحاً مسلحاً ضد تركيا على مدى أربعة عقود منصرمة، لكن من المعروف أن الأكراد يسيطرون على مناطق واسعة في شمال شرق سوريا بدعم كبير من الأميركيين. وقد جاء اعلان الحزب هذا بعد أقل من شهر من بدء القوات الأميركية تخفيض عديدها في تلك المناطق إلى النصف بعد أن سحبت ألف جندي منها وألزمت القيادة الكردية بالتوصل إلى اتفاق مع الرئيس السوري أحمد الشرع يقضي باندماج الأكراد في المؤسسات الرسمية السورية.
هذان الأمران (وقف الحرب الهندية الباكستانية وحل حزب العمال) يحملان في طياتهما معالم التوجه الأميركي سواء في التعامل مع قضايا جنوب آسيا أو ابرام تفاهمات لمصلحة الحليف التركي. وليس خافياً على أحد أن التوجه “الإسرائيلي” في سوريا هو نحو تفتيتها إلى دويلات طائفية متناحرة وهو أيضاً توجه يتمدد نحو لبنان لتمزيقه إلى دويلات طائفية متناحرة.
غير أن التوجه التركي نحو وحدة الأراضي السورية يجد صداه الإيجابي أميركياً، كون هذه الوحدة تعطي الأتراك وصاية على كامل سوريا فيما تفتيت سوريا ليس فقط من شأنه أن يُقلص النفوذ التركي فيها بل أيضاً يُشكّل عدوى قد تمتد إلى داخل حدودها بسبب الامتداد الكبير للأكراد والعلويين فيها. من هنا، قرّرت تركيا التحرك بقوة على خطين، الأول؛ خوض مفاوضات مباشرة مع “إسرائيل” في عاصمة اذربيجان، باكو، والثاني؛ الخط الأميركي من أجل وأد الفتنة الدرزية السنية التي اشتعلت خلال الشهر الماضي والتي دخلت “إسرائيل” على خطها بصورة علنية عبر اعلان نتنياهو أن “إسرائيل” ستحمي الأقلية الدرزية في سوريا وأن الغارة التي شنّها طيرانه الحربي على منطقة قريبة من القصر الرئاسي في دمشق هي رسالة مباشرة للشرع في هذا الاتجاه.
إذا تمكنت تركيا من فرض وصايتها على سوريا وتحقيق الاستقرار فيها؛ هذا الأمر من شأنه أن يُعزّز نفوذها في لبنان أيضاً وبالتالي يعُطي مشروع العثمانية الجديدة الذي ينادي به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جرعة دعم قوية، بضوء أخضر أميركي. ناهيك عن تعزيز الدور التركي في التعامل مع الوضع العراقي الذي يُشكّل أيضاً مصدر قلق ليس فقط لتركيا بل أيضا لأميركا وحلفائها العرب.
كل ما سبق يشير إلى أن حلم نتنياهو بشرق أوسط جديد تحت هيمنة “إسرائيل” يُبدّده صديق الأمس ترامب عبر تعامله مع الواقع وموازين القوى وليس مع الأحلام وأضغاثها، ذلك أن “إسرائيل” أعجز من أن تحمي نفسها، فهي وعلى مدى عشرين شهراً من حرب ضروس على قطاع غزة البالغة مساحته 364 كيلومتراً مربعاً، وبضوء أخضر أميركي وغربي وعربي، ظلّت محتاجة إلى الأساطيل والمستودعات الأميركية.
في هذا السياق، كأن ترامب يُريد القول لنتنياهو إنه لا يريد للولايات المتحدة أن تتحول حرس حدود لـ”إسرائيل” طالما أنها لا تراعي المصالح الأميركية، أبعد من مصالحهما الإستراتيجية، وبناء عليه، لا مشكلة في أن تتولى تركيا زمام الشراكة الإستراتيجية في الدفاع عن المصالح المشتركة في الشرق الأوسط، لا سيما أنها حليفٌ موثوقٌ وشريكٌ في حلف “الناتو”. ورُبّ قائل إن نتنياهو لم يفهم خلال زيارته الأخيرة لواشنطن في الشهر الماضي الإشارة التي مرّرها له ترامب عندما قال له بشكل واضح إن أردوغان هو صديق موثوق له، فكان أن عاد نتنياهو إلى تل أبيب وفعل ما فعله في سوريا، ما فاقم غضب ترامب في ضوء تعارض السياسات في أكثر من ملف ولا سيما وقف اندفاعة التطبيع في إصرار نتنياهو على مواصلة حربه العبثية على قطاع غزة.
بهذا المعنى، يُصبح تسليم ملف المنطقة الساخنة في الشرق الأوسط لتركيا أقل كلفة على أميركا وأكثر مقبولية من أهل المنطقة ومن شأنه أن يُحقّق نتائج أضمن. كلُ ذلكَ لا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها ترامب سيتخليان عن “إسرائيل” وعن حمايتها بالمعنى الاستراتيجي للكلمة.. وهذا الأمر يحتاج إلى مقاربة منفصلة.