العدوان “الإسرائيلي” على قطر: هدفٌ مُعلنٌ وأهداف ضمنية

"لا مُحرمات في الحب والحرب". مقولةٌ أثبتَ صحتها العدوانُ "الإسرائيلي" على دولة قطر، أمس (الثلاثاء)، الذي استهدف قيادة حركة حماس خارج فلسطين المحتلة. قطر تُعتبر من أقرب حلفاء الولايات المتحدة الموثوقين، وعلى أراضيها تقعُ أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، كما أنها تلعب دوراً رئيسياً في المفاوضات غير المباشرة بين حماس و"إسرائيل". أضف إلى ذلك، أنها من الدول المُطَبّعَة (وإن بصورة غير مباشرة). ومع ذلك لم يشفع لها التطبيع بشيء!

الهدف المُعلن للخرق “الإسرائيلي” الكبير الذي طال سيادة دولة قطر هو محاولة اغتيال قيادة حركة حماس. أما الأهداف الضمنية فهي أكثر من أن تُحصى. وإذا كان تحقيق الهدف المُعلن (قتل قيادة حماس) قد فشل، فهذا لا يعني أن الأهداف غير المُعلنة قد فشلت أيضاً. ويمكن تلمس ذلك عبر تتبع التفاصيل التي سارت عليها الأحداث.

أولاً؛ مهما حاولت الإدارة الأميركية، ورئيسها دونالد ترامب، التنصل من المسؤولية، فإن الغارة الإسرائيلية ما كانت لتحصل من دون ضوء أخضر وتعاون لوجستي عسكري أميركيين. فلدى قطر منظومة دفاع جوّي أميركي حديثة يديرها (ميدانياً) جنودٌ أميركيون، على مدار الساعة، ومهمتها الأساسية حماية قاعدة “العديد” الأميركية، التي تقع بالقرب من العاصمة القطرية، الدوحة، حيث يوجد أيضاً مقر قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي. لذلك لا يعقل- ولا بأي شكل- أن تتجاوز طائرات حربية “إسرائيلية” هذه المنظومة وتُغير على الدوحة. ما يعني إما أن المشرفين على هذه المنظومة قد تعمدوا تعطيلها أثناء الغارة، وهذا يتطلب قراراً سياسياً عالي المستوى، وإما أن هذه المنظومة غير فعَّالة. وأي عاقل، لديه الحدّ الأدنى من المعرفة العسكرية، يعرف أن الاحتمال الثاني مستحيل. وبالتالي فإن الاحتمال الأول هو الأكثر منطقية، وهذا يعني أن الإدارة الأميركية كانت شريكة في الغارة بمعزل عن التصريحات الفارغة والمضلّلة التي أدلى ويدلي بها مسؤولون أميركيون، وعلى رأسهم ترامب نفسه.

ثانياً؛ لا يمكن للطائرات “الإسرائيلية” المغيرة أن تصل إلى الأجواء القطرية إلَّا بعبورها أجواء العديد من الدول العربية (معظمها يدور في الفلك الأميركي، وبعضها يمتلك أيضاً منظومة دفاع جوي أميركي متطورة جداً). وهذا يعني أن هذه الدول غضَّت الطرف عن الغارة التي انتهكت أجواءها قبل أن تنتهك أجواء قطر. ويعني أيضاً- في أضعف الأحوال- أن قادة هذه الدول هم شركاء غير نشطين في الغارة، لأنهم أكثر حماسة من “إسرائيل” في التخلص من حركة حماس، ورُبّ قائل إن قطر نفسها تبلغت قبل “وقت وشيك” بقرار الغارة عبر الموفد الأميركي ستيف ويتكوف!

ثالثاً؛ هناك معلومات تفيدُ بأن الإدارة الأميركية تقدمت، قبل العدوان على قطر، باقتراح جدّي جداً بشأن وقف الحرب على غزة. وأن قادة حماس وجدوا المقترح “مُغرياً” لدرجة أنهم عقدوا اجتماعاً موسعاً من أجل مناقشته.

بإختصار؛ لقد مارست واشنطن مع القيادة الفلسطينية الخديعة ذاتها التي مارستها مع إيران، في 12 حزيران/يونيو الماضي. فحتى عشية ذلك التاريخ، كان المفاوضون الأميركيون يخوضون سلسلة من النقاشات مع القيادة الإيرانية وصفوها بالايجابية، ليتبين لاحقاً أنها لم تكن سوى للتعمية وللتمويه على التحضيرات التي كانت تقوم بها “إسرائيل” لتنفيذ عدوانها على إيران.

ما بعد العدوان على قطر

استناداً إلى ما سبق، فإن الغارة “الإسرائيلية”؛ وإن فشلت في القضاء على قادة حركة حماس؛ قد ثبَّتت نظرية أن “إسرائيل”، وبقرارٍ أميركي واضح لا لبس فيه، هي دولة خارج القانون والمحاسبة مهما ارتكبت من موبقات بحق القريب والبعيد، ومهما خرقت القوانين الدولية والإنسانية. أي أنها “أزعر الحي” الأميركي. ليس هناك دولة في العالم تتجرأ على أن تعتدي على ست دول في أقل من 24 ساعة، من دون أن يرفَّ لقادتها جفن ومن دون أن تتعرض لأي مساءلة. فالغارة على قطر ترافقت مع غارة شنَّتها مسيّرات حربية “إسرائيلية” على إحدى سفن الأسطول الدولي المتضامن مع غزة في أحد الموانىء التونسية. كما ترافقت مع غارة شنَّتها طائرات حربية على مراكز في شمال سوريا، وأخرى طالت مناطق في شمال شرق لبنان، في الوقت الذي كانت الغارات الجوية تواصل تدمير الأبنية والأبراج السكنية في قطاع غزة. وأعقبتها غارات على صنعاء والجوف في اليمن. وفي كل تلك الغارات – التي يمتدُّ مداها الجغرافي آلاف الكيلومترات بعيداً عن فلسطين المحتلة – لا تنفي “إسرائيل” مسؤوليتها، بل تتبجح بها.

إن ما بعد العدوان على قطر لن يكون كما كان قبله، وهذا أمرٌ مؤكدٌّ.  فعلى قاعدة “مين جرَّب المُجَرَّبْ كان عقله مخرَّبْ” فإن العدوان الإسرائيلي الذي تعرضت له قطر يؤكد أن لا مصداقية لما يقوله المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم ترامب، الذي أبلغ أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أن هذا “العمل” الإسرائيلي “لن يتكرَّر” (لم يقل عدواناً بل قال عملاً). فخلال شهرين فقط مارس ترامب الخديعة نفسها مع إيران وحماس. وهنا تبرز الأهداف غير المباشرة والمترامية الأطراف لما حصل الثلاثاء في قطر، والتي يمكن تلخيصها – بحسب أهميتها الميدانية – بما يلي:

أولاً؛ في الموضوع الفلسطيني: إن كل ما حُكي عن مبادرات ومفاوضات، على مدى العامين المنصرمين، لوقف الحرب على غزة، أو لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، لم يكن إلَّا مضيعة للوقت. فالهدف هو إنهاك حركة حماس وحلفائها، وإظهارهم على أنهم الطرف المُعرقل للتسوية، وبالتالي تبرير حرب الإبادة الجماعية التي تمارسها “إسرائيل” بحق الفلسطينيين- قتلاً وتجويعاً- تمهيداً لاحتلال القطاع وبعده الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين إلى أي بقعة من بقاع الأرض.

إقرأ على موقع 180  ترامب لن يقبل نتيجة الانتخابات الأمريكية إذا كانت ضده!

ثانياً؛ في الموضوع اللبناني: إن كلَّ ما فعله المبعوثون الأميركيون- من آموس هوكشتاين إلى مورغان اورتاغوس وتوم برّاك- هو أيضاً مجرد مضيعة للوقت، وتعمية وتمويه بهدف تحميل المقاومة في لبنان مسؤولية استمرار العدوان “الإسرائيلي” رغم إتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وما سُمي بـ”الورقة الأميركية”، التي تبنتها الحكومة اللبنانية (في 5 و7 آب/أغسطس الماضي) ليست سوى محاولة لزجّ الجيش اللبناني في مواجهة مباشرة مع المقاومة. فـ”إسرائيل” تتنصَّل، علانية، من “الورقة الأميركية”، وترفض الانسحاب من النقاط الخمس التي تحتلها في جنوب لبنان برغم تبني الحكومة اللبنانية قرار “حصرية السلاح” بيد الدولة.

“أزعر الحي” الأميركي

ثالثاً؛ في الموضوع السوري: إن إسقاط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وتنصيب قائد “جبهة النصرة” أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) رئيساً أكد بما لا يقبل الشكّ أن المشكلة مع الأسد لم تكن يوماً قصة حريات وطبيعة نظام بل كانت بصورة أساسية عدم تراجعه عن موقفه الرافض للتطبيع مع “إسرائيل”. فالشرع قدّم لـ”إسرائيل” وأميركا تنازلات باتت أكثر من أن تُحصى: سكت عن احتلال “إسرائيل” للجولان، أغلق كل المنافذ التي كانت تستفيد منها المقاومة في لبنان، وقطع كل العلاقات مع حركات المقاومة الفلسطينية وذهب إلى حدّ التضييق على أفرادها حيثما تواجدوا داخل المناطق السورية، وأمر بعقد لقاءات سياسية رفيعة المستوى مع “الإسرائيليين” (منها الاجتماعات التي عقدت في العاصمة الاذربيجانية-باكو، وهو يستعد للقاءات مماثلة في نيويورك). ومع ذلك، يستمر الجيش “الإسرائيلي” في شنّ عمليات عسكرية على مناطق متفرقة من سوريا، ويواصل توغله داخل الحدود السورية (حتى الآن يحتل حوالي 600 كلم من جنوب البلاد) ودباباته تقف على بعد 20 كلم من العاصمة دمشق.

إن الاستباحة “الإسرائيلية” لسيادة دول المنطقة بهذه الفظاظة هي في حقيقة الأمر استباحة أميركية بأداة “إسرائيلية”، ومحاولة لكيّ الوعي الجمعي العربي

رابعاً؛ في الموضوع المصري والأردني: برغم تمسك القيادة المصرية باتفاقية كامب ديفيد للسلام مع “إسرائيل”، وممارستها كل أشكال الحصار على المقاومة في قطاع غزة، فان المسؤولين “الإسرائيليين” بدأوا بتهديد مصر واتهامها بـ”خرق كامب ديفيد”، فقط لأنها نشرت جنودها على حدود غزة للحيلولة دون تنفيذ “إسرائيل” مخطط تهجير سكان القطاع إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. وما يسري على مصر يسري على الأردن المهدد بسيادته عبر التلويح “الإسرائيلي” مؤخراً باحتلال غور الأردن، فضلاً عن التداعيات التي تُهدّد النظام الأردني إذا نفذت حكومة نتنياهو قرار التهجير من الضفة الغربية المحتلة.

خامساً؛ في الموضوع التركي: بالرغم من أن تركيا حليفٌ رئيسيٌ لأميركا، وعضوٌ في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فان الغارات “الإسرائيلية” المستمرة منذ سقوط نظام الأسد على مواقع عدّة في سوريا شملت مواقع كانت تركيا تعمل على تحويلها إلى قواعد عسكرية. زدْ على ذلك تهديدات أطلقها مسؤولون “إسرائيليون” قبل العدوان على قطر وبعده ضدَّ تركيا إذا ما استضافت قادة من حماس على أراضيها. ناهيك عن التضارب بين المشروعين “الإسرائيلي” والتركي في سوريا: “إسرائيل” تريد تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية مُتَناحرة تحظى برعايتها، وتركيا تتمسك بوحدة سوريا بصفتها نقطة ارتكاز لـ”العثمنة الجديدة” التي يقودها الرئيس رجب طيب أردوغان.

سادساً؛ في الموضوع الإيراني: بالرغم من وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه بين إيران و”إسرائيل”، بعد عدوان حزيران/يونيو الماضي، فان ما تفعله “إسرائيل” بقرار أميركي يُبقي سيف الإعتداء “الإسرائيلي” مُصلتاً على إيران مع الإشارة إلى أن المشاركة الأميركية المباشرة في العدوان كانت مؤشراً إلى أن هذا السيف سيكون أميركياً إن لم يُحقق السيف “الإسرائيلي” الهدف.

سابعاً؛ في موضوع ما يُسمى بـ”الشرق الأوسط الجديد”: يجري تعميم هذا المصطلح لطمس الهوية العربية للمنطقة. والاستباحة “الإسرائيلية” لسيادة دول المنطقة بهذه الفظاظة هي في حقيقة الأمر استباحة أميركية بأداة “إسرائيلية”، ومحاولة لكيّ الوعي الجمعي العربي بأن “أميركا هي ربكم الأعلى” ولا مرد لقراراتها وإلّا فإن “أزعر الحي” لديها (إسرائيل) ستكون حاضرة لترويض من يتمرد.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  النظام الدولي، أمريكا والشرق الأوسط نحو الانحدار