

ليس في هذا الاستنتاج أية مبالغة، فالأهداف التي وضعها نتنياهو للعدوان على غزة منذ سنتين كانت واضحة: سحق حركة حماس؛ استعادة الأسرى “الإسرائيليين” بالقوة؛ منع أي تهديد مستقبلي في القطاع؛ وبالتزامن كانت حكومته ماضية في قرار ضم الضفة الغربية بعد تهجير سكانها إلى الأردن في خطوة مكملة للسيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانه إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. وطالما أن “إسرائيل” لم تستطع تحقيق هذه الأهداف، لماذا وافقت على وقف الحرب ولماذا تدخل ترامب بقوة لتحقيق ذلك؟
رأينا كيف تحوّل العدوان “الإسرائيلي” على غزة خلال العامين المنصرمين من عملية عسكرية ضد حركة حماس إلى حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني أطاحت بكل المحرمات وفق القوانين الدولية، من قتل عمد للمدنيين وتدمير للمنشآت الصحية والمدارس إلى تجويع الناس وتحويل خيم الإيواء ومراكز توزيع المساعدات إلى كمائن لقتل المدنيين، ناهيك عن استخدام شتى أنواع الأسلحة والذخائر التي بلغت قوتها التدميرية بحسب الأرقام العالمية ثلاثة أضعاف القنابل الذرية التي ألقاها الأميركيون على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية.
هذه الحرب الإبادوية تسببت بتراجع صورة “الإسرائيلي” أمام الرأي العام الدولي من ضحية (المحرقة) لمصلحة صورة الوحش المتفلت من كل الضوابط الأخلاقية والإنسانية، فتحولت ساحات العواصم والمدن في أوروبا وأميركا واستراليا وآسيا إلى مد شعبي عارم يهتف لحرية فلسطين ويدين الوحش “الإسرائيلي” إلى درجة أن ترامب نفسه قال “إن ما تفعله إسرائيل بات يشكل ضرراً جسيماً لصورتها أمام المجتمع الدولي”.
زدْ على ذلك أن الجيش “الإسرائيلي” بات غارقاً في حرب عصابات في غزة مع مقاومين ثبّّتوا أقدامهم في أرض وطنهم وأعاروا جماجمهم للسماء، وأصبح كل يوم يحمل ما يسميه الإعلام العبري “حدثاً أمنياً مؤلماً” في وصفه لسقوط قتلاه وجرحاه في غزة.
وكان استهداف الوفد الفلسطيني المفاوض في الدوحة بغارة “إسرائيلية” كالقشة التي قصمت ظهر البعير، إذ أنه زاد في تعرية “إسرائيل” أمام شعوب العالم، فكان لا بد من مبادرة ما من طرف ما لايقاف الجنون “الإسرائيلي”، ومن أجدر من الراعي الأميركي للعدوان في التدخل لوقف بلطجة “الأزعر” الذي أطلقه ليستبيح المنطقة العربية بهذه الشراسة؟
تستطيع القيادات “الإسرائيلية” أن تتبجح قدر ما تشاء بما تسميه انتصارات على سبع جبهات (لبنان وغزة والضفة الغربية وسوريا والعراق واليمن وإيران)، تماماً كما كانت تتبجح بالعمل على ابعاد الفلسطينيين من غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية ومن الضفة الغربية إلى الاردن وتغيير صورة الشرق الأوسط وتحويل كل المنطقة إلى ملعب “إسرائيلي” بلا منازع، لكن قراءة متأنية للواقع تُبين أن هذا التبجح في غير مكانه. إذ على الرغم من الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين والدمار الهائل والخسائر المؤلمة للمقاومة في صفوف قادتها ومقاتليها فإن “النصر الإسرائيلي” لم يكتمل في اي من هذه الجبهات.
ففي جبهة غزة لم تستطع أن تخرج بصورة “النصر المطلق” التي حدّدتها مع بداية عملية “السيوف الحديدية” قبل عامين لجهة استعادة الاسرى لدى حماس بالقوة وسحق حماس. ما حصل هو العكس تماماً، فقد اعترفت الولايات المتحدة بحركة حماس المدرجة على لوائح الارهاب لديها وتمثل هذا الاعتراف الصريح باجتماع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف مع رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض خليل الحية وتقديمه واجب العزاء له باستشهاد نجله في العدوان “الإسرائيلي” على قطر، وتبعه انتشار قوات “كتائب عز الدين القسام” فوراً بعد الانسحاب “الإسرائيلي” إلى الخط الأصفر في غزة وملاحقة الميليشيات التي انشأها جيش الاحتلال لتكون بديلاً لحماس وتنفيذ اعدامات ميدانية بعناصرها.. والأهم أن أهالي قطاع غزة والضفة الغربية تمسكوا بأرضهم ورفضوا تهجيرهم ناهيك عن رفض كل من مصر والأردن خطة التهجير “الإسرائيلية”.
وفي جبهة لبنان، وبرغم الخسائر التي تكبدتها المقاومة في صفوف قادتها ومقاتليها والدمار الكبير الذي خلفه العدوان “الإسرائيلي” منذ بدء “حرب الإسناد” حتى يومنا هذا، وبرغم الضغط الأميركي والعربي والغربي لنزع سلاح المقاومة فإن المقاومة ما تزال صامدة وتعيد تنظيم صفوفها وما تزال تشكل الرقم الصعب على الساحة السياسية اللبنانية وأعلنت بالفم الملآن أنها لن تُسلم سلاحها.
في العراق، أساساً لم تكن هناك جبهة نشطة بل بضعة عمليات قصف صاروخي استهدفت القواعد الأميركية والقليل منها استهدف الأراضي الفلسطينية المحتلة ولكنها سرعان ما توقفت.
في اليمن، حافظت حركة “أنصار الله” بزعامة عبد الملك الحوثي وحتى لحظة وقف اطلاق النار في غازة على مواصلة قصف المدن “الإسرائيلية” بالصواريخ والمسيرات الانتحارية كما واصلت حصارها البحري للموانىء “الإسرائيلية” برغم ما تكبدته من خسائر كبيرة في قيادتها وخسائر مادية ناجمة عن القصف “الإسرائيلي” والأميركي للمدن اليمنية.
في إيران، وبرغم الخسائر في القيادات العسكرية والعلمية وفي صفوف المدنيين، فإن العدوان “الإسرائيلي” لم يحقّق أهدافه؛ وبالمقابل، ظلّت الصواريخ الإيرانية تدك مواقع استراتيجية حساسة في فلسطين المحتلة، ما اضطر الولايات المتحدة إلى استهداف ثلاث منشآت نووية إيرانية وصولاً إلى توقف العدوان “الإسرائيلي”.
أما في سوريا، التي يصر نتنياهو على وصفها بالجبهة، فلم تنخرط في الحرب خلال العامين المنصرمين، ومع ذلك فإن القوى التي أطاحت بنظام بشار الأسد هي قوى تابعة لتركيا مباشرة، أما الانجاز “الإسرائيلي” الذي تحقق لجهة احتلال جبل الشيخ واجزاء من الجنوب السوري تبلغ مساحتها حوالي 600 كلم2، فقد نجم عن الفراغ في السلطة وليس نتيجة مواجهة عسكرية، ولكن “إسرائيل” لم تتمكن من تسييل هذا الانجاز سياسياً، وتبخرت كل الأخبار والروايات عن توقيع اتفاق أمني بين “إسرائيل” وحكومة الرئيس السوري المعين أحمد الشرع، والسبب الرئيس لذلك هو معرفة الشرع أنه لا يستطيع أن يُفرّط بسيادة سوريا لا في مناطقها الجنوبية ولا في جبل الشيخ والجولان.
لقد حاول ترامب أن يظهر اتفاق وقف اطلاق النار في غزة بوصفه “مشروع السلام المنشود”، لكنه تجاهل في قمة شرم الشيخ كما في كل تصريحاته قبلها وبعدها أية مقاربة جدية لحل القضية الفلسطينية، وبالتالي لم تضف هذه القمة إلا المزيد من قتامة الصورة.. والأسوأ بالنسبة لنتنياهو أن بعض حلفاء واشنطن قالوا بالفم الملآن في قمة شرم الشيخ أن لا سلام في المنطقة من دون حل يضمن حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته على أرضه.
في الختام، نشهد يومياً تهديدات أميركية و”إسرائيلية” للبنان والفلسطينيين في غزة باستئناف الحرب ضدهما في تهويل مكشوف، فلو كان بامكان “إسرائيل” مواصلة الحرب لما وافقت على وقف اطلاق النار، وامام مشهد التضامن العالمي مع فلسطين وضد عدوانية “إسرائيل” ووحشيتها فان استئناف الحرب بات أصعب بكثير من السابق. ما هو مرجح هو استمرار “الستاتيكو” في كلا الجبهتين وتعايش “إسرائيل” مع فكرة عدم قدرتها على “النصر المكتمل” وأنها من حيث لا تدري باتت في مواجهة مشروع جديد هو مشروع “العثمانية الجديدة” الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي حقّق أكبر انجازاته في سوريا عبر الإطاحة بنظام الأسد وتثبيت نظام موالٍ له، وها هو عسكره، وفق اتفاق وقف اطلاق النار في غزة، سيطأ أرض فلسطين للمرة الأولى منذ انهيار السلطنة العثمانية قبل قرن من الزمن إلا إذا رفع نتنياهو “الفيتو” بوجه الأتراك.