

هذا اللقاء وان كان سيُعقد عبر الوسيط العُماني، هو الأول من نوعه بين إيران وإدارة الرئيس دونالد ترامب الذي سبق له أن ألغى خلال ولايته الأولى (2018) الاتفاق النووي الذي كانت توصلت إليه إدارة سلفه باراك أوباما مع إيران ووقّعته مجموعة الدول الخمس زائداً واحد، في العام 2015.
ماذا يحمل كل طرف في جعبته إلى هذه الجولة التفاوضية؟
من الجانب الأميركي؛ يأتي ستيف ويتكوف إلى عُمان وفي جعبته شعور بفائض القوة الناجم عن الضربة الكبيرة التي تلقاها المحور المقاوم الذي كانت تقوده وترعاه إيران، ومعه تدمير توازنات الردع ومعادلة “وحدة الساحات”، أو وفق المنظور الأميركي قطع أذرع إيران في المنطقة، وذلك وفق ما يلي:
1- تدمير نفوذ إيران في سوريا واخراجها كلياً من هذا البلد الذي استثمرت في دعم نظامه السابق قرابة الخمسين مليار دولار على مدى 45 عاماً وزرع بذور الشك وعدم الثقة بين إيران وروسيا جرّاء ما حصل في سوريا.
2-توجيه ضربات قاسية جداً إلى حزب الله، بوصفه درة التاج الإيرانية في المنطقة، وذلك عبر القضاء على معظم القيادات العسكرية للمقاومة وعلى رأسها الأمين العام للحزب الشهيد السيد حسن نصرالله وخلفه الشهيد السيد هاشم صفي الدين وتدمير البنى التحتية والسكنية لمناطق واسعة من البيئة الحاضنة للمقاومة وبالاخص في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت. وجعل عملية اعادة البناء لهذه المناطق شرطاً أميركياً “إسرائيليا” مرتبطاً بنزع سلاح المقاومة.
ترامب قالها بالفم الملآن إنه سينهي كل أشكال الحروب العسكرية. وإذا لمس فرصة لتجاوز الأزمة مع إيران من دون حرب فهو سيكون أكثر من سعيد. أما الجانب الإيراني فهو لم يكتف بأن أعلن أنه ضد الحرب بل قدّم في الرسالة التي بعث بها خامنئي إلى ترامب اغراءات تتمثل بفتح السوق الإيرانية أمام الإستثمارات والشركات الأميركية.. وهذا أكثر ما يُسيل لُعاب ترامب
3-توجيه ضربات قاسية وعميقة للمقاومة الفلسطينية الحليفة لإيران في قطاع غزة عبر اغتيال معظم القيادة السياسية والعسكرية لهذه المقاومة وعلى رأسها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد اسماعيل هنية ورئيس مكتبها السياسي في القطاع الشهيد يحيى السنوار والمسؤول العسكري للحركة في القطاع الشهيد محمد الضيف. اضافة إلى الابادة الجماعية لسكان القطاع وتدمير أكثر من ثمانين في المئة من الأبنية السكنية فيه، ناهيك عن تدمير البنى التحتية والمستشفيات ودور العبادة والجامعات والمدارس، والاستفادة من هذا الواقع لطرح مشروع تهجير سكان القطاع إلى دول مجاورة او بعيدة.
4-توجيه ضربة قاسية للقوى العراقية الحليفة لإيران، وان كانت هذه الضربة أقل بما لا يقاس من تلك التي تلقتها المقاومة في فلسطين ولبنان، ولكن هذه الضربة بدأت تمهد الطريق عبر الضغط السياسي لتسليم هذه القوى سلاحها للحكومة العراقية أو بعنوان “تحييد العراق” عن الاشتباك الأميركي الإيراني.
5-الغارات الأميركية البريطانية الإسرائيلية المتواصلة على حركة أنصار الله في اليمن وهي الحليف الموثوق لإيران.
6-الحصار الاقتصادي والمالي الخانق على إيران المتواصل منذ عقود والذي أفقر شعبها، ومعه التهديد بشن هجوم أميركي “إسرائيلي” على إيران قد تشارك فيه دول أخرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعنوان “تدمير منشآتها النووية”، ولكنه يحمل في طياته أهدافاً أخرى أولها القضاء على النظام القائم فيها كما حصل مع نظام الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003 عندما استخدمت الولايات المتحدة ذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل لغزو بلاده ليتبين لاحقاً أن هذه الذريعة فبركتها أجهزة الاستخبارات الأميركية.
أما الجانب الإيراني، فهو يعمل كعادته على تحويل كل أزمة إلى فرصة، وهو وإن كان لا يملك الكثير من الأوراق لكنه يعرف أن قرار شن الحرب على بلاد فارس ليس بالأمر السهل، فهي بلاد مترامية الأطراف وتبلغ مساحتها أكثر من 1,64 مليون كلم2، وفيها جبال تعلو عن سطح البحر أكثر من خمسة آلاف متر ويزيد عدد سكانها عن الثمانين مليون نسمة كما أنها محاطة بأكثر من خمسين قاعدة عسكرية أميركية في دول مجاورة تستضيف عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين ناهيك عن انتشار حاملتي طائرات أميركيتين في بحر الخليج على متن كل منهما أكثر من خمسة آلاف جندي ومئات الطائرات الحربية من طرازات مختلفة.
لذلك كله فإن المفاوض الإيراني يأتي إلى اجتماع عُمان وهو:
1-متحللاً من الاكلاف العالية التي كان يدفعها في سوريا على مدار الساعة وتشكل مزرابا يستنزف خزينة بلاده، أي أنه يُحوّل المشكلة إلى فرصة.
2-يحمل فتوى شرعية قديمة متجددة للمرشد السيد على الخامنئي بتحريم صناعة السلاح النووي، ولهذه الفتوى أهمية كبيرة في النظام الأوتوقراطي القائم على نظرية ولاية الفقيه. وبناء على هذه الفتوى بامكان المفاوض الإيراني ممارسة مرونة كبيرة للتوصل إلى اتفاق على آلية مراقبة البرنامج النووي الإيراني إذا أقر الجانب الأميركي بمشروعية امتلاك إيران للتقنية النووية لأهداف سلمية.
3-التحالف مع روسيا والصين، وتم التمهيد لذلك باجتماع ثلاثي عقد في موسكو تم خلاله التأكيد على دعم إيران في مفاوضاتها مع أميركا تحت سقف عدم امتلاكها أسلحة نووية..
4- بالرغم من الضربات القاسية التي تلقاها حلفاء إيران في كل من لبنان وفلسطين والعراق فان إيران لم تخسر كلياً أوراق القوة لديها، فمن جهة عمل هؤلاء الحلفاء على إعادة ترميم قدراتهم خلال الأشهر القليلة الماضية وحتماً يحتاجون إلى المزيد من الوقت لتثبيت عملية الترميم هذه. من جهة ثانية؛ من شأن المفاوضات أن تعطيهم هذه الفرصة التي يحتاجونها لأن لا أحد يتوقع أن تنتهي المفاوضات في الاجتماع الذي سيعقد يوم السبت.
5-يعتبر أن وجود هذا العدد من القواعد العسكرية الأميركية حول بلاده مع الانتشار العسكري في بحر الخليج يُشكّل فرصة لإيران وليس فقط مشكلة لأن هذه القواعد يصعب حمايتها من الصواريخ الإيرانية ذات القدرة التدميرية، كما ان تجربة المواجهات بين أنصار الله وحاملات الطائرات الأميركية تُشكّل مثالاً لما يُمكن أن يحصل لو أن إيران نفسها هي التي تخوض هذه المواجهات وبالقدرات النارية المتوفرة لديها. ناهيك عن امكانية ان تكون الدول الخليجية التي تستضيف قواعد عسكرية أميركية (وهي تشمل كل دول مجلس التعاون الخليجي) هدفاً للهجمات الصاروخية الإيرانية، إذا استخدمت هذه القواعد في ضرب إيران (بما في ذلك أجواء تلك الدول) بما يمكن أن يكون لهذا الأمر من انعكاسات سلبية ليس فقط على الأمن والسلم في المنطقة بل أيضاً على الأمن الإقتصادي العالمي.
6-قدرة إيران على إغلاق باب المندب ومضيق هرمز.. ولهذا الأمر تأثيره السلبي على الاقتصاد العالمي.
وماذا عن اللقاء الأخير الذي جمع في البيت الأبيض ترامب ورئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو؟
حسب الإعلام الإسرائيلي، لم تكن نتيجة الاجتماع وفق ما كان يطمح إليه نتنياهو، لا بل أجمعت على وصف نتائج الاجتماع بالفشل الذريع لنتنياهو الذي لم يتمكن من تخفيض التعريفة الجمركية التي فرضها ترامب على “إسرائيل” بنسبة 17 في المئة، وقال له إن أميركا تدعم “إسرائيل” سنوياً باربعة مليارات دولار فلا يحق له الاعتراض على التعريفة المفروضة، كما أنه طلب منه انهاء الحرب في غزة مكتفياً بما تم تحقيقه، والأهم من ذلك ابلاغ نتنياهو بالمفاوضات الأميركية الإيرانية المقررة يوم السبت المقبل في سلطنة عمان. واستدلت وسائل الاعلام “الإسرائيلية” على سوء اللقاء بين نتنياهو وترامب بالغاء الأخير مؤتمراً صحافياً كان مزمعاً اجراؤه في البيت الأبيض بعد انتهاء اجتماعهما.
أما ما يُمكن قراءته على أنه قواسم مشتركة بين الطرفين المتفاوضين فهو أن كلاهما لا يريد الحل العسكري، فالرئيس ترامب قالها بالفم الملآن إنه سينهي كل أشكال الحروب العسكرية. وإذا لمس فرصة لتجاوز الأزمة مع إيران من دون حرب فهو سيكون أكثر من سعيد. أما الجانب الإيراني فهو لم يكتف بأن أعلن أنه ضد الحرب بل قدّم في الرسالة التي بعث بها خامنئي إلى ترامب اغراءات تتمثل بفتح السوق الإيرانية أمام الإستثمارات والشركات الأميركية.. وهذا أكثر ما يُسيل لُعاب ترامب.
وفقاً لكل ما سبق فإن مجرد اتفاق الطرفين على التفاوض هو بمثابة قطع مسافة لا بأس بها من الطريق للتوصل إلى اتفاق، أما ما سيحصل يوم غدٍ السبت فهو بداية كسر الجليد بين الطرفين ومحاولة بناء جسور ثقة تفاوضية والأرجح أن تكون نتيجة الاجتماع الأول إيجابية وتُمهّد لاجتماعات مباشرة تتناول إضافة إلى الملف النووي القضايا العالقة وأبرزها الصواريخ الباليستية والمُسيّرات والنفوذ الإقليمي..
هو مسارٌ سيترك آثاره على مجمل صورة الإقليم.. وإن غداً لناظره قريب.