خصوم أميركا.. في حمى التنين الصيني

عملاً بالقول المأثور للرومان: "من أراد السلام فليستعد للحرب"، قرّرت الصين عدم الإنزواء في الخلف، وتقديم نفسها كقوة متقدمة تحدوها آمال عراض، في أن تشكل محوراً موازياً للولايات المتحدة. 

انتهز الرئيس شي جين بينغ فرصة انعقاد قمة منظمة شانغهاي للتعاون قبل أسبوع في مدينة تيانجين، وما تلاها من استعراض عسكري مبهر في ميدان تيان آن مين (بوابة السلام الأبدي) ببكين في 3 أيلول/سبتمبر الجاري، كي يقول علناً أن ما من أحد يستطيع “إيقاف الصين”.

بداية، تأسست منظمة شانغهاي للتعاون في 2001، مع مستهل مسيرة الصعود الصيني، كثاني اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة. وهي تضم الآن عشرة أعضاء كاملي العضوية مع عشر دول بصفة مراقب. وتمثل المنظمة نحو نصف سكان العالم و23.5 في المئة من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي. الغاية من إنشاء المنظمة، كان الإضطلاع بدور اقتصادي-أمني، في موازاة التكتلات الاقتصادية الغربية وحلف شمال الأطلسي “الناتو”. لكن باستثناء تعزيز العلاقات الاقتصادية، لم يتبلور اتجاه مهم على صعيد التعاون العسكري، لا سيما أن التوتر كان سمة غالبة على العلاقات بين العملاقين الآسيويين، الصين والهند.

لكن الحدث الذي شدّ إليه الأنظار في قمة تيانجين الأخيرة، لم يكن حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإنما حضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، مما أسبغ أهمية بالغة على القمة، في وقت تشهد العلاقات الأميركية-الهندية تدهوراً غير مسبوق بعد سنوات واعدة من التعاون في مجالات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية.

ببساطة، تزامن حضور مودي القمة غداة دخول قرار ترامب زيادة الرسوم على الواردات الهندية بنسبة 50 في المئة، عقاباً لرئيس الوزراء الهندي الذي رفض طلب الرئيس الأميركي بالتوقف عن شراء النفط الروسي، بهدف حرمان بوتين من موارد مالية لدعم آلة الحرب في أوكرانيا.

 وبكلام آخر، سياسة ترامب هي التي دفعت مودي إلى تجاوز التأزم في العلاقات مع الصين بسبب الاشتباكات الحدودية في السنوات الأخيرة، والحضور إلى تيانجين، فما كان من شي جين بيغ إلا أن لاقاه بالتنديد بـ”بالتنمر” الذي تلجأ إليه الولايات المتحدة، في إشارة واضحة إلى الحروب التجارية التي تخوضها إدارة ترامب ضد الحلفاء والخصوم، سواء بسواء. ولم يكن خصوم أميركا المستجدين أو القدامى هم من حضروا إلى الصين، بل هناك زعماء تربط بلادهم علاقات متينة مع واشنطن، أمثال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

بوتين وكيم ومودي، خذلوا ترامب، في وقت جدّدت الصين وروسيا معارضتهما إعادة تفعيل آلية العقوبات الأممية ضد إيران في مجلس الأمن، ووفّرت زيارة بزشكيان للصين، دعماً ديبلوماسياً أحوج ما تكون طهران إليه في مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية وتعاظم الاحتمالات بتوجيه ضربة إسرائيلية أخرى لإيران في الأشهر المقبلة

وغداة القمة، أراد شي جين بينغ عبر العرض العسكري الضخم في بكين في مناسبة الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية بالانتصار على اليابان، أن يبعث برسالة تحدٍ لا تُخطئها عين، إلى الولايات المتحدة. بدا هذا العرض وكأنه ردٌ على العرض العسكري الذي أجراه ترامب في واشنطن في حزيران/يونيو الماضي، في مناسبة ذكرى عيد ميلاده الـ78 التي تصادفت مع الذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي.

لم يكن العرض العسكري وحده وما احتواه من أسلحة متطورة، هو الباعث على شعور ترامب بالاستفزاز، بل هي الصورة التي ظهر فيها شي جين بينغ يسير في الساحة الحمراء متوسطاً بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي حضر بقطاره المصفح إلى الصين، بينما كان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من الزعماء الأجانب الذين حضروا العرض.

لم يكن عديم الدلالة ارتداء شي جين بينغ، بدلة مشابهة لتلك التي كان يرتديها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. وهو أبرز في الخطاب الذي ألقاه خلال العرض، الصين على أنها قوة يمكن الاعتماد عليها، في وقت “تواجه الإنسانية خيار السلام والحرب، الحوار أو الحرب، فوز الجميع أو خسارة الجميع”. وهذه أقوى إشارة إلى موقع الصين في خضم الحروب والصراعات الناشئة في العالم.

وفهم ترامب ما يرمي إليه شي جين بينغ، فسارع في برقية التهنئة إلى التذكير بدور أميركا في مساندة الصين ضد اليابان، ومن ثم ليتهم الرئيس الصيني وبوتين وكيم جونغ أون بـ”التآمر ضدنا”. لكنه أقر بمرارة لاحقاً بأن أميركا يبدو أنها خسرت الهند وروسيا “أمام الصين الأشد عمقاً وظلاماً”.

كثيرة هي الأسباب التي جعلت ترامب يشعر بالغضب. فبوتين كان ضيفه في قمة آلاسكا قبل أسبوعين، من دون أن تبدر عن الرئيس الروسي أية إشارة إلى احتمال مقابلة الانفتاح الأميركي بمثله والقبول بوقف النار في أوكرانيا، وتسهيل وصول الرئيس الأميركي إلى أوسلو (نوبل للسلام). أما كيم جونغ أون، فانضمامه إلى الحدث الصيني، يؤشر على تجاهل تام لرسائل المرونة التي بعث بها إليه ترامب في الأسابيع الأخيرة، وإعلان نيته الاجتماع معه مجدداً.

إقرأ على موقع 180  المصير البائس للإنتفاضة السودانية

بوتين وكيم ومودي، خذلوا ترامب، في وقت جدّدت الصين وروسيا معارضتهما إعادة تفعيل آلية العقوبات الأممية ضد إيران في مجلس الأمن، ووفّرت زيارة بزشكيان للصين، دعماً ديبلوماسياً أحوج ما تكون طهران إليه في مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية وتعاظم الاحتمالات بتوجيه ضربة إسرائيلية أخرى لإيران في الأشهر المقبلة.

لا يرقى الشك إلى الفرضية القائلة بأن ترامب بمد اليد لبوتين، لم يكن حريصاً فقط على وقف الحرب في أوكرانيا، بل أيضاً على كسر “الشراكة بلا حدود” بين موسكو وبكين، التي توطدت في الأعوام الأخيرة.

وفوق هذا وذاك، لن يكون في امكان بوتين تجاهل إصرار الصين على علاقات اقتصادية متينة مع روسيا، على رغم التحذيرات الغربية من تعرضها لعقوبات بسبب المضي في شرائها النفط الروسي وعدم ممارسة الضغط على الكرملين لوقف الحرب، بينما شركات التكنولوجيا الصينية متهمة من أميركا بتقديم العون للصناعات العسكرية الروسية.

وإلى بروز الصين كملجأ للمضطهدين من الولايات المتحدة، فإن العرض العسكري الصين، اشتمل على مضامين استراتيجية لا مناص من تجاهلها أميركياً. من الصواريخ الفرط صوتية التي حذّر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث قبل تسلمه منصبه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، من أنها قادرة على تدمير حاملات الطائرات الأميركية في 20 دقيقة. إلى جانب ذلك، لفتت الأنظار المُسيّرات المستخدمة تحت سطح البحر والصواريخ الضخمة، ولا سيما صاروخ “دي. إف. سي-5” الذي يبلغ مداه 20 ألف كيلومتر بحمولة 12 رأساً نووياً، إلى الأسلحة المعتمدة على الليزر.

والرسالة من وراء ذلك، هي أن الصين باتت قوة عظيمة، وأن مصدر الإضطراب في العالم، كما يفترض هي الولايات المتحدة، وفق ما استخلصت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية.

على ذلك، ردّ ترامب، الذي لطالما زعم بأنه “رئيس السلام”، بإعادة تسمية وزارة الدفاع بـ”وزارة الحرب” نظراً لـ”الأوضاع الراهنة”، وبدعوة أوروبا لممارسة ضغوط على بكين بسبب أوكرانيا، ولا سيما في ضوء تراجع الآمال بقرب التوصل إلى حل للحرب الروسية الأوكرانية التي تقترب من انهاء عامها الثالث في شباط/فبراير المقبل، وهي كبّدت البلدين خسائر بشرية وعسكرية واقتصادية لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  رؤية واشنطن الشرق أوسطية مُهدّدة بالغرق في رمال.. رفح!