مئة يوم على “ترامب الثاني”.. حروبٌ لم تتوقف وحروبٌ في الأفق!

على مقياس المئة يوم الأولى من الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، غلبت الإخفاقات على الإنجازات. رقم قياسي من الأوامر التنفيذية التي حيّدت دور الكونغرس إلى حد كبير، ومنحت الرئيس صلاحيات "ملكية"، وتحدٍ للجامعات والمحاكم وهدم للبيروقراطية. وكاد الهوس بالتعريفات الجمركية، الذي ارتد وبالاً على وول ستريت، أن يقود أميركا إلى الهاوية بعيون مفتوحة.

مدفوعاً بشعبوية جماعة “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” التي تعرف اختصاراً بـ”ماغا” (MAGA)، أعلن ترامب الحرب على البيروقراطية في الداخل، وألغى وكالات فيديرالية، وسرح عشرات آلاف الموظفين في عملية “التطهير” التي قادها قطب التكنولوجيا إيلون ماسك الذي ولّاه “وزارة الكفاءات الحكومية”. وقاد حملة شرسة لإخضاع الجامعات وفي مقدمها جامعة هارفرد، متهماً إياها بأنها معاقل لمعاداة السامية، نظراً للاحتجاجات التي شهدتها ضد حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة.

جامعة هارفرد التي تأسست قبل أميركا، لم ترفع الراية البيضاء، على رغم تعليقه لها مساعدات فيدرالية تقدر بـ3 مليارات دولار. ردّت الجامعة العريقة باتهام ترامب بالتدخل في الحرية الأكاديمية، ورفضت مطالبه بالنسبة للتوظيف والمناهج وقبول الطلاب من الخارج.

جعل ترامب من الولاء له، شرطاً مسبقاً للتعيينات في إدارته، وأحاط نفسه بمجموعة من المتشددين من نائب الرئيس جيه. دي. فانس، إلى وزير الدفاع بيت هيغسيث وإيلون ماسك، وراسل فوغت مدير الموازنة في البيت الأبيض، وستيفن ميلر نائب كبير الموظفين، وروبرت كينيدي الإبن وزير الصحة.

هؤلاء وغيرهم يُقدّمون الولاء، في مقابل الحماية التي يُقدّمها لهم الرئيس. أكبر دليل على ذلك، هو التمسك بهيغسيث على رغم الفضائح المتتالية التي تعصف بوزارة الدفاع وبينها معلومات تسربت عبر تطبيق “سيغنال” المفضل لدى الوزير، عند البحث في الخطط العسكرية، ومنها الحملة الجوية ضد الحوثيين في اليمن.

واستفزت عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين غير الشرعيين إلى سجن سيء السمعة في السلفادور، المحكمة الفيديرالية العليا، في قضية ترحيل كيلمار أبرغو غارسيا أحد المقيمين القانونيين في الولايات المتحدة، من دون توجيه أية تهم جنائية له. المحكمة التي سبق أن منحت ترامب الحصانة عن أفعاله، اضطرت إلى اتخاذ قرار بالإجماع بإعادة غارسيا. لكن ترامب ابتسم للرئيس السلفادوري نجيب بوكيلة عندما أعلن الأخير من المكتب البيضاوي، أنه لن يفرج عن غارسيا.

في المئة يوم الأولى من ولاية ترامب، ثبت أن أميركا غير قادرة على إخضاع العالم دفعة واحدة، وبأن الرئيس الأميركي بالغ في تقدير القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، وقلّل كثيراً من قوة الآخرين. وظهر لوهلة، أن هذه السياسة تدفع نحو تكتلات دولية جديدة ضد أميركا. والبيت الأبيض قلق فعلاً من امكان ارتماء الاتحاد الأوروبي في أحضان الصين

هذه السياسة بدأت تثير تساؤلات عما إذا كانت أميركا تمضي نحو الحكم الاستبدادي المماثل لذاك الموجود في المجر، حيث يُخضع رئيس الوزراء فيكتور أوربان القوى السياسية والمحاكم ووسائل الإعلام لنفوذه؟

على أن أخطر القرارات التي اتخذها ترامب، كانت الزيادات الحادة في الرسوم الجمركية ضد أكثر من 60 دولة في العالم، قبل أن يتراجع عن معظمها تحت ضغط الانهيارات في الأسواق المالية، ويبقيها فقط على الصين.

المفارقة اليوم، هي أن ترامب الذي لجأ إلى مهادنة الاتحاد الأوروبي ودول كثيرة في العالم، بدأ في الأيام الأخيرة يتحدث عن استعداده للتفاوض على تسوية تجارية مع الصين. اللجوء إلى الخطاب المرن مع بكين، أتى بعدما ردّت الصين على الرسوم الأميركية بالمثل، الأمر الذي تسبب في هز الاقتصاد الأميركي، على نحوٍ غير متوقع. وهذا ما جعل رئيس المصرف الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول يحذر من اتجاه الولايات المتحدة نحو ركود اقتصادي وزيادة في الأسعار إذا استمرت الحرب التجارية. واتفق صندوق النقد الدولي مع باول في تشخيصه للأزمة.

ترامب، الذي لم يرق له تقويم باول، هدّد بإقالته، الأمر الذي تسبب في مزيد من الانهيارات في وول ستريت، وصولاً إلى تهديد مكانة الدولار. وأساس المشكلة هي أن باول رفض الامتثال لطلب ترامب بخفض الفائدة. وهرع رؤساء متاجر التجزئة في البلاد مثل “تارغت” و”وول مارت” و”هوم ديبوت” إلى البيت الأبيض، محذرين من أن الرسوم الجمركية، قد تربك سلاسل التوريد وترفع الأسعار.

هذا التخبط والارتجال في القرارات، بدأ يترجم في استطلاعات الرأي التي أظهرت تراجعاً في شعبية ترامب إلى ما دون ما كانت عليه في أول مئة يوم من ولايته الأولى عام 2017. ومنذ شهر، يخرج الأميركيون في مدن مختلفة للإعلان عن معارضتهم لسياسة ترامب. ويجتذب السناتور الأميركي المستقل عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرز عشرات الآلاف إلى التجمعات التي يدعو إليها في أرجاء البلاد تحت عنوان “محاربة الأوليغارشية”.

يدفع هذا جماعة “ماغا” إلى الضغط أكثر على ترامب كي يُصعّد حملته على المعارضين لسياساته، ظناً منهم أن التراجع الآن، يعني تمهيد الطريق أمام الديموقراطيين لاستعادة الكونغرس في الانتخابات النصفية في العام المقبل، بعدما خذل الاقتصاد الشعبوي الأميركيين.

الحروب التي وعد ترامب بإيقافها فور عودته إلى البيت الأبيض، لم تتوقف بعد. لا بل أن ثمة حروباً أخرى تلوح في الأفق كما هو حاصل الآن بين الهند وباكستان

ولا تقل التحديات الخارجية جسامة عن التحديات الداخلية. والكنديون يذهبون غداً إلى صناديق الاقتراع تحت عنوان أن “كندا ليست أميركا”، بعد تهديدات ترامب بالضم، وبفرضه حزمات من التعريفات الجمركية القاسية على الجار الشمالي.

إقرأ على موقع 180  ماذا لو سقطت أمريكا؟

أحدث ازدراء ترامب لكندا وزعمائها ردة فعل قوية عند الكنديين، الذين يشعرون اليوم بهويتهم الوطنية أكثر من أي يوم مضى. يتطلع الكنديون اليوم إلى شراكات اقتصادية أوثق مع أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية.

وما يسري على كندا، يسري على أوروبا التي تستفيق على واقع الاهتزاز الكبير في العلاقات عبر ضفتي الأطلسي، بسبب التنائي الحاصل في المئة يوم الأولى من ولاية ترامب. من أوكرانيا إلى الرسوم الجمركية إلى تعمد ترامب وفانس الحديث عن أوروبا بلغة فيها الكثير من الإساءة إلى القارة. أزمةٌ تحتدم مع الرؤية التوسعية لترامب، الذي لا يني يُكرّر أن جزيرة غرينلاند، يجب أن تكون تحت السيطرة الأميركية.

والسياسة الخارجية لترامب ليست أقل ارتجالاً من سياساته الاقتصادية. جهوده لوقف النار بين روسيا وأوكرانيا، تواجه حالة من عدم اليقين، والحرب تزداد شراسة من دون أن تلوح في الأفق أن التسوية قريبة. وهذا ما يحمل مسؤولين أميركيين على التهديد بالتخلي عن الوساطة، التي يتولاها المبعوث الخاص إلى أوكرانيا ستيف ويتكوف.

وغزة، التي ينظر إليها ترامب على أنها مجرد “قطعة أرض مهمة”، جعلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ميداناً للقتل. ووعود الرئيس الأميركي بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، لا تعني البحث عن حل عادل للقضية الفلسطينية. إنها تعني توسيع التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.

وتسير المفاوضات المستأنفة مع إيران، على حدي التهديدات الإسرائيلية بعمل وشيك ضد المنشآت النووية الإيرانية، والحملة الجوية الأميركية المكثفة على الحوثيين في اليمن. يراهن ترامب على أن المفاوضات تبقى خياراً أفضل من اللجوء إلى استخدام القوة، ويضع سقفاً زمنياً للتفاوض وخطاً أحمر هو عدم امتلاك إيران قدرات توصل إلى القنبلة. حظوظ النجاح والفشل متساوية هنا.

وبالنتيجة، فإن الحروب التي وعد ترامب بإيقافها فور عودته إلى البيت الأبيض، لم تتوقف بعد. لا بل أن ثمة حروباً أخرى تلوح في الأفق كما هو حاصل الآن بين الهند وباكستان.

في المئة يوم الأولى من ولاية ترامب، ثبت أن أميركا غير قادرة على إخضاع العالم دفعة واحدة، وبأن الرئيس الأميركي بالغ في تقدير القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، وقلّل كثيراً من قوة الآخرين. وظهر لوهلة، أن هذه السياسة تدفع نحو تكتلات دولية جديدة ضد أميركا. والبيت الأبيض قلق فعلاً من امكان ارتماء الاتحاد الأوروبي في أحضان الصين. وهذا ما جعله يعلق زيادة الـ25 في المئة على الرسوم الجمركية التي فرضها على الاتحاد الأوروبي.

وول ستريت وهارفارد والمحاكم واستطلاعات الرأي والصين، قالت لترامب “توقف”!. فهل هذا كافٍ لإقناعه بالتراجع عن سياساته “الثورية” والعودة إلى التزام القواعد والأعراف التي سادت لعقود، أم يندفع إلى قرارات انفعالية لاستعادة ما فقده من هيبة؟

في هذه المناسبة، تستحضر صحيفة “الإيكونوميست” البريطانية قولاً جميلاً لكارل ماركس جاء فيه “إن الرجال يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم”.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما معنى أن تكون آسيا خارج "الإمبراطورية"؟