يتحدّث المراقبون عن عشرات الأوامر الإداريّة التي سيُصدرها ترامب منذ اللحظات الأولى لدخوله إلى البيت الأبيض والتي ستُشكّل تحوّلاً جذريّاً في السياسات الأمريكيّة، الداخليّة والخارجيّة، بحيث بات التساؤل عن مائة ساعة حاسمة.. وليس عن مائة يوم.
في الواقع، نشط مستشارو ترامب في الأسابيع الأخيرة بشكلٍ كبير. هكذا زار المستثمر العقاري ستيف ويتكوف المكلّف بملفّ الشرق الأوسط إسرائيل لإيصال رسالة إلى بنيامين نتنياهو مفادها بأنّ ترامب يريد فرض اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة قبل استلامه السلطة. من دون أن يأبه بإزعاج نتنياهو يوم سبت راحة اليهود. وبالفعل، تمّ إعلان الاتفاق بالرغم من أنّ ويتكوف معجب بنتنياهو وتهديد ترامب العلني بـ”جحيم غزّة” الموجه إلى حركة “حماس” إذا لم تُطلق سراح الرهائن. كما يتمّ الحديث عن زيارة لترامب للبنان في العام 2026 لمناسبة افتتاح مبنى السفارة الأمريكيّة الضخم الذي يتمّ تشييده في محلة عوكر في هذا البلد، بعد أن تمّ وضعه تحت وصاية ضابطٍ كبير في القيادة المركزيّة الأمريكيّة لإدارة وقف إطلاق النار وتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1701.
كما تحدّث ترامب مع نظيره الصينيّ شي جين بينغ طويلاً قبل ثلاثة أيّام من موعد أداء القسم ودعاه لحضور مراسم التنصيب، التي سيحضرها فعليّاً نائب الرئيس الصينيّ كسابقة في تاريخ العلاقات الأمريكيّة-الصينيّة. كذلك تمّ الإعلان عن لقاءٍ قريب بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من دون أن يتمّ أيّ حديث مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي حتى الآن.
خيارات ترامب ستأخذنا إلى سايكس بيكو جديد على الأرض السوريّة، بحيث تكون أطرافه الأساسيّة هي تركيا وإسرائيل وكذلك دول الخليج. ويُمكن أن تذهب الأمور أبعد من شمال شرق فدرالي واحتلال جنوبي، بخاصّةً إذا لم تبدِ الإدارة الجديدة في سوريا انفتاحاً سريعاً على تنوّع المجتمع السوريّ وتتخلّى عن فكرة دمج عناصر أجنبيّة جهاديّة بالجيش السوري الجديد
هكذا يبدو أنّ قرارات ترامب ستُطلِق منذ الساعات الأولى ديناميات كبرى على الصعيدين الأمريكي الداخليّ والعالميّ. ملفّات المهاجرين والمالية وتصفية الحسابات مع الخصوم تحظى بالأولويّة. ولكنّ الملفّات الأكثر وقعاً ستكون الخارجيّة منها.
فقد أعلن مع مستشاره المليونير المبدع أيلون ماسك أنّ في نيتّهما فرض رسوم جمركيّة كبيرة على كلٍّ من كندا والمكسيك وكذلك شراء جزيرة غرينلاند الضخمة من الدانمارك واستعادة قناة باناما. وأنّه ليس على كندا سوى أن تصبح ولاية من الولايات المتحدة الأمريكيّة، لا عبر احتلالٍ عسكريّ وإنّما عبر ضغوطٍ اقتصادية كبيرة. ما يعني أنّ ترامب ينوي في بادرة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وإنشاء الأمم المتحدة إعادة ترسيم خريطة الدول في شمال ووسط القارة الأمريكية، أي “سايكس-بيكو” أمريكي جديد من طرفٍ واحد!
والمتوقّع أن يتّفِق ترامب مع الرئيس الروسي أيضاً على إعادة ترسيم خريطة أوكرانيا. ما كان قد دفع الرئيس زيلنسكي إلى الإعلان منذ بضعة أسابيع أنّه سيقبل التخلّي عن أراضٍ ضمن اتفاقية سلام مع روسيا إذا ما تمّت حماية ما يتبقّى له من الأراضي من قبل حلف شمال الأطلسي. تنازلٌ أوكرانيٌ مسبقٌ قبل إجراء أيّة مفاوضات!
وفيما يخصّ المشرق العربي، من الواضح أنّ ترامب مناصرٌ كبير لإسرائيل التي يرى حجمها “صغيراً” (!)، ما تعني ترجمته إنهاء القضيّة الفلسطينيّة وقبوله بطموحات التوسّع الإسرائيليّ وتحقيق آمال “إسرائيل الكبرى”. فهو منذ ولايته الأولى اعترف بضمّ القدس والجولان السوري برغم قرارات الأمم المتحدة. وقد عمل جاهداً من أجل “صفقة القرن” بين إسرائيل ودول الخليج حتّى لو ضمّت إسرائيل نهائيّاً إليها غزّة والضفّة الغربيّة. بما في ذلك أن تصبح غزّة منفذاً لـ”طريق الحرير” الأمريكي الجديد (الممر الهندي) العابر من دبي إلى السعودية إلى الأردن إلى إسرائيل.. أي غزّة بمثابة دبيّ استثمارية جديدة، ولكن دون سكّانها.
ويبدو أن الأمور قد تذهب خلال ولايته الجديدة أبعد من ذلك بعد أن تمّ تحجيم إيران ودورها وتدمير قوّة حلفائها في فلسطين ولبنان وسوريا.. فماذا عن اليمن؟ وكان صديقه بنيامين نتنياهو قد أعلن في الكونغرس الأمريكي والجمعيّة العامّة للأمم المتحدة أنّه سيُغيّر مشهد الشرق الأوسط والدول “الملعونة” فيه.. وهكذا فعل دون رادع حتّى في ظلّ الرئيس بايدن.
بالتأكيد يبرز هنا السؤال حول ما سيسمح به ترامب إسرائيليّاً تجاه إيران ومشروعها النوويّ، بخاصّةً بعد تحجيم إيران وتوقيعها على “اتفاقية استراتيجيّة” مع روسيا. لكن السؤال الأكبر يكمُن في موقفه تجاه سوريا بعد إسقاط بشار الأسد؟
ليس واضحاً إذا كان لترامب دورٌ في القرار الدوليّ الذي تمّ اتخاذه للإطاحة بالأسد قبيل تنصيبه. وقد صرّح أنّ “تركيا قد قامت بعمليّة استيلاء غير وديّة على السلطة” في سوريا. “وقد أرادت ذلك منذ آلاف السنين، وقد حصلت عليه. وهؤلاء الأشخاص الذين دخلوا (سوريا) تسيطر عليهم تركيا، ولا بأس بذلك”. ولا يبدو أنّه أصدر تعليقاً على التغلغل الإسرائيلي في جنوب سوريا واحتلال المنطقة العازلة والمطالبة بمنطقة آمنة لها في العمق وبمنطقة مراقبة تجسسيّة تشمل العاصمة دمشق.
بالطبع، ستسمح نهاية النفوذ الإيراني في سوريا وتدمير كلّ القدرات العسكريّة في البلد بفرض أيّ “سلامٍ” يريده ترامب كي يحصل على طموحه بنيل جائزة نوبل! لكنّ الأمر لا يبدو سهلاً وسط طموحات تركيا وإسرائيل ودول الخليج وفي الموقف الذي سيتّخذه تجاه “قوّات سوريا الديموقراطية” (قسد) وتجاه “هيئة تحرير الشام” (هتش) والفصائل المتحالفة معها بعد أن استحوذت على السلطة في دمشق.
في الواقع، فشلت تركيا وفصائل “الجيش الوطني” التي أسّستها في الدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها “قسد” شرق الفرات قبل تنصيب ترامب لفرض واقعٍ جديد. ولم تدفع “هتش” قوّاتها وحلفاءها كي تساند في المعركة. هذا في حين أعلنت الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي صراحةً أنّها “تتواصل” مع جميع دول المنطقة، بما فيها إسرائيل، ما يعني حماية مكتسباتها. وجرت مفاوضات برعاية المخابرات الأمريكيّة بين قيادة “قسد” والقيادة الجديدة في سوريا، لكنّها اصطدمت بملفّ من سيستحوذ على سجناء إرهابيي “داعش” كورقة جيوسياسيّة؟
من ناحيةٍ أخرى، تواصلت الولايات المتحدة مع الإدارة الجديدة في سوريا من دون أن ترفع عنها تصنيفها كـ”إرهابيّة” ودون أن ترفع العقوبات سوى لستّة أشهر وتحديداً عن قطاع الكهرباء والطاقة.. وهذا ما يُعيق أيّ نهوض بالاقتصاد السوري وأيّ دعمٍ إقليميّ أو دوليّ لترسيخ أوضاع السلطة السورية الجديدة. هذا في الوقت الذي انتقدت فيه وزارة الخارجيّة الأمريكيّة “تجاوزات” السلطات الجديدة في سوريا حيال الأقليّات وحقوق الإنسان.
خيارات ترامب ستأخذنا إلى سايكس بيكو جديد على الأرض السوريّة، بحيث تكون أطرافه الإقليميّة الأساسيّة هي تركيا وإسرائيل وكذلك دول الخليج. ويُمكن أن تذهب الأمور أبعد من شمال شرق فدرالي واحتلال جنوبي، بخاصّةً إذا لم تبدِ الإدارة الجديدة في سوريا انفتاحاً سريعاً على تنوّع المجتمع السوريّ وتتخلّى عن فكرة دمج عناصر أجنبيّة جهاديّة بالجيش السوري الجديد.
فما الذي يعنيه السلام في سوريا بالنسبة لترامب وما الذي يعنيه أيضاً أوّلاً وأساساً بالنسبة للسوريين؟