روسيا الضامنة يُعيدُها ترامب.. من بوابة النووي الإيراني

جولتا المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران في مسقط ومن ثم في روما، عكستا إلى حد كبير إرادة سياسية من الجانبين في التوصل إلى اتفاق يُجنبهما مواجهة كارثية ويُخفض التصعيد في الشرق الأوسط، ويخلق دينامية جديدة في العلاقات المحكومة بالعداء بين أميركا وإيران.

ملامح الجدية يتحدث عنها المسؤولون الأميركيون والإيرانيون على حد سواء، بعدما وصلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والقيادة الإيرانية إلى اقتناع بأن المسار السياسي وحده كفيل بالتوصل إلى صفقة، تراعي الخطين الأحمرين اللذين رسمتهما أميركا وإيران. الخط الأميركي هو عدم امتلاك إيران القنبلة النووية، بينما الخط الإيراني هو عدم نزع البرنامج النووي بالكامل واحتفاظ إيران بحق التخصيب على أراضيها بنسبة يُتفق عليها لاحقاً. والأكثر ترجيحاً هو نسبة 3.67 في المئة التي نصت عليها خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، على أن توضع تحت رقابة دولية أكثر صرامة.

تثير حماسة ترامب لتوقيع اتفاق مع إيران، توتراً واضحاً في إسرائيل، خصوصاً بعد تسريب خبر إلى صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، مفاده أن الرئيس الأميركي رفض طلباً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لشن ضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية في إيران، فيما كان وزير الشؤون الإستراتيجية المقرب جداً من نتنياهو، رون ديرمر، يتواجد فجأة في روما بالتزامن مع الجولة التفاوضية الثانية التي ستعقبها جولة ثالثة يوم السبت المقبل، على أن تسبقها جلسات للخبراء الفنيين المعنيين بالملف النووي في مسقط عاصمة سلطنة عُمان، بدءاً من يوم الأربعاء المقبل.

وفي سعي مكشوف إلى نسب الفضل إليه في عدم تمكين طهران من الحصول على القنبلة حتى الآن، أعلن نتنياهو الخميس الماضي أن الاستراتيجية التي اعتمدها منذ عشرة أعوام، هي التي أخّرت البرنامج النووي الإيراني، وليست سياسة “الضغوط القصوى” التي اعتمدها ترامب منذ انسحابه من الاتفاق عام 2018.

يتمسك نتنياهو برأيه القائل أن الحؤول بين إيران والقنبلة، يكمن إما في تفكيك كامل للبرنامج النووي الإيراني وفق “النموذج الليبي” أو بإسقاط النظام في طهران. وهو يرى أن كلا الاحتمالين ممكن، كون إيران هي في أضعف حالاتها منذ العام 1979. يزيد هذا من التوتر المكبوت حتى الآن، بين نتنياهو وترامب، الذي تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، إنه نجح في “تقييد” سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي.

وكان لافتاً للانتباه إثر الجولة الثانية ما أعلنه متحدث باسم وزارة الخارجية العُمانية بأن اجتماعات روما “أسفرت عن توافق الأطراف للإنتقال إلى المرحلة التالية من المباحثات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق منصف دائم وملزم يضمن خلو إيران بالكامل من الأسلحة النووية ورفع العقوبات بالكامل عنها، مع الحفاظ على حقها في تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية”، وهذا يعني أن “النموذج الليبي” الذي يُنادي به نتنياهو صار وراء ظهر الأميركيين.

وإذا كان الوضعان الاقتصادي والإقليمي غير المواتيين لإيران، هما من يجعل المسؤولين في طهران يتبنون مجدداً سياسة “المرونة البطولية” التي تحدث عنها المرشد آية الله علي خامنئي في معرض تبريره لاتفاق 2015، فإن ترامب الذي ارتدت عليه عكسياً حروبه التجارية والتحديات التي يواجهها مع “الدولة العميقة” والجامعات والمحاكم، لتهبط شعبيته 14 نقطة في أقل من مئة يوم من عودته للبيت الأبيض، يُريدُ انجازاً يُفاخر به في السياسة الخارجية. إيران قد توفر له الفرصة التي يبحث عنها، خصوصاً مع تراجع الآمال بتسوية قريبة في أوكرانيا (برغم التوافق على هدنة جزئية في عيد الفصح) ومع تصعيد نتنياهو الحرب على غزة والضفة الغربية ومواصلة الغارات شبه اليومية على جنوب لبنان واستمرار توغلات جيشه في سوريا.

“ذا ناشيونال إنترست”: “إذا أردنا تجنب الحرب، فإن مساعدة روسيا في عملية نزع السلاح النووي ــ وجعلها تُقدّم لطهران كل الضمانات، التي قد تحتاجها كي تشعر بالارتياح مع مثل هذه الخطوة ــ هي على الأرجح الطريقة الأكثر نجاعة لتجنب حرب إقليمية واسعة النطاق”

على أن أميركا لم تتوقف عن البعث برسائل تحذير غير مباشرة لإيران، ومنها التصعيد غير المسبوق في الغارات الأميركية على الحوثيين في اليمن، وآخرها تدمير ميناء رأس عيسى في محافظة الحُديدة. وهناك تلويح بتحريك الجبهات البرية في مأرب وغيرها، لكن الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً نفت أن تكون في هذا الوارد. وتؤشر زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان لإيران الخميس الماضي وتسليمه رسالة من الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى المرشد الإيراني، على أن الرياض وطهران لا تزالان تلتزمان محددات اتفاق بكين للتطبيع بينهما وما تلاه من هدنة في اليمن.

وبين مسقط وروما، اضطلعت سلطنة عُمان بدور الوسيط بشخص وزير خارجيتها بدر البوسعيدي، لكن لا بد من التوقف عند مسألة أن حسم انعقاد الجولة الثانية في إيطاليا، أتى تزامناً مع استقبال ترامب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في البيت الأبيض. ميلوني هي الزعيمة الأوروبية التي تنتمي إلى حزب “أخوة إيطاليا” اليميني المتطرف، حافظت على علاقة ودية مع ترامب، في وقت كانت العلاقات على ضفتي الأطلسي تشهد تدهوراً مريعاً بسبب الملف الأوكراني.

إقرأ على موقع 180  "بلومبيرج": الناتو الشرق أوسطي.. حبرٌ على ورق!

ومهما كانت الأسباب التي أملت تغيير مكان المفاوضات، يبقى الجوهر متعلقاً بمضمون المفاوضات وبالأطراف التي يُمكن أن تلعب دور المُسهّل في التوصل إلى الاتفاق المتوخى.

ها هنا، يبرز الدور الروسي وكأنه الأكثر التصاقاً بمجريات العملية التفاوضية. وعشية مفاوضات مسقط، سافر المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف إلى سان بطرسبرج حيث التقى الرئيس فلاديمير بوتين على مدى ساعات. ويتكوف هذا مكلف بالملفين الأوكراني والإيراني إلى ملف غزة. وبديهي، أن يطلب الرجل الأقوى في إدارة ترامب ثمناً من بوتين لقاء استمرار التقارب الأميركي-الروسي. هذا الثمن يتعدى أوكرانيا إلى إيران. وحدها روسيا يمكن أن تقنع القيادة الإيرانية بتقديم التنازلات المطلوبة للتوصل إلى اتفاق نووي جديد.

وقد خصّ ترامب روسيا بهذا الدور مع إيران لأسباب عدة:

أولاً؛ يريد البيت الأبيض توجيه رسالة استياء إلى الترويكا الأوروبية، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهي التي لعبت دور الوسيط خلال المفاوضات غير المباشرة بين إدارة جو بايدن السابقة وطهران.

ثانياً؛ إعادة بعض الاعتبار لهيبة روسيا على الساحة الدولية على حساب الاتحاد الأوروبي والصين، في ذروة الحروب التجارية التي يقودها ترامب، الذي يخشى اتفاقاً تجارياً أوروبياً-صينياً الصيف المقبل، من شأنه إذا ما تحقق، أن يحد من سلاح التعريفات الجمركية الأميركية.

ثالثاً؛ روسيا هي الطرف الأكثر موثوقية من قبل طهران، وكانت من بين الأطراف الضامنة للاتفاق النووي لعام 2015، الذي أبرمته إيران مع مجموعة “خمسة + واحد” وانسحب منه ترامب في ولايته الأولى عام 2018.

رابعاً؛ في المطالب التي كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن إدارة ترامب تقدمت بها إلى القيادة السورية الانتقالية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، لم يرد أي ذكر للقاعدتين الروسيتين في طرطوس واللاذقية، بينما كانت إدارة بايدن طالبت النظام الجديد في سوريا، بانهاء الوجود العسكري الروسي في هذا البلد.

وتعزيزاً لفرضية تقدم الدور الروسي في المفاوضات النووية على ما عداه، أجرى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، عشية جولة روما، محادثات على مدى يومين في موسكو، وسلّم بوتين رسالة من خامنئي. تزامن ذلك مع إقرار مجلس الاتحاد الروسي معاهدة التعاون الاستراتيجي التي وقعها البلدان في قت سابق من العام الجاري.

وعن الدور الروسي المحتمل، كتبت مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية: “إذا أردنا تجنب الحرب، فإن مساعدة روسيا في عملية نزع السلاح النووي ــ وجعلها تُقدّم لطهران كل الضمانات، التي قد تحتاجها كي تشعر بالارتياح مع مثل هذه الخطوة ــ هي على الأرجح الطريقة الأكثر نجاعة لتجنب حرب إقليمية واسعة النطاق”.

يضاف إلى ذلك أيضاً أن روسيا تعرضت العام الماضي لخسارة استراتيجية في الشرق الأوسط، بسقوط نظام بشار الأسد، وهي لا تريد خسارة إيران الحليف الاستراتيجي الآخر في المنطقة، في حال نشبت مواجهة عسكرية أميركية-إيرانية مباشرة.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ساعة الحرب العالمية الثالثة.. تنتظر "الخطأ القاتل"!