قرارات ترامب ووعوده من كندا إلى لبنان.. ممثلٌ واحدٌ على مسرح العالم!

منذ تسلمه سلطاته الدستورية رسمياً في ٢٠ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٥، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة مواقف دراماتيكية في السياسة الخارجية أذهلت العالم وأذهلت الأميركيين وبخاصة مؤيديه.

أول وأغرب قرار اتخذه ترامب هو قراره بالسيطرة على جزيرة غرينلاند في المحيط المتجمد الشمالي طمعاً بالمعادن التي تختزنها؛ هذه الجزيرة تقع ضمن سيادة مملكة الدانمارك التي تخلت منذ قرون عن جزيرة أيسلاند المجاورة ومنحتها استقلالها ويبلغ عدد سكانها نحو أربعمائة ألف نسمة. أما غرينلاند فلا يتجاوز عدد سكانها الخمسين ألفاً.

ومع أن الدانمارك دولة إسكندنافية صغيرة لكنها هبّت مجتمعة للتصدي لقرار ترامب وحشدت الرأي العام الأوروبي لمواجهة سلب الجزيرة. ويُمكن القول إن هذا المشروع فشل.

ثاني قرارات ترامب الغريبة هو السيطرة على قناة باناما، وهي ممر مائي حيوي بين أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وتدر رسوماً كبيرة طمع ترامب بها. رفضت باناما الصغيرة وتعاطفت معها أميركا اللاتينية واستغرب العالم خطوة ترامب وانتهت الأزمة باعفاء السفن الأميركية من رسوم عبور تلك القناة.

ثالث القرارات الترامبية هو ضم كندا إلى الولايات المتحدة بحيث تصبح الولاية الحادية والخمسين. كندا دولة عريقة ومتقدمة علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً، وهي ثاني دولة في العالم بمساحتها بعد الإتحاد الروسي. كانت كندا تُوصف بأنها متماهية سياسياً مع الولايات المتحدة وهما أكثر دولتين جارتين في العالم تعاوناً. (كان الرسّام الشهيد ناجي العلي يهاجم في رسومه الكاريكاتورية الولايات المتحدة وعندما تلقى تنبيهاً من رئيس تحرير الصحيفة الخليجية بناء على مراجعة أميركية، خرج في اليوم التالي برسم كاريكاتوري يهاجم فيه الجارة كندا)!

رابع القرارات انشاء ريفييرا في غزة. على وقع دماء الشعب الفلسطيني في غزة والمجازر الاسرائيلية المستمرة ترامب باقتراح يقضي بتهجير مليون من سكانها إلى الأردن والمليون الآخر إلى مصر وتطوير العقارات فيها وانشاء ريفييرا شرق أوسطية ودعا لهذه الغاية ملك الأردن عبدالله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لزيارته في واشنطن. حضر الملك عبدالله وأرجأ السيسي الزيارة ربما لأجل غير مسمى وفشل المشروع وأوفد ترامب مبعوثه ستيف ويتكوف للتفاوض حول تبادل الأسرى ووقف اطلاق النار.

خامس القرارات فرض رسوم جمركية مفاجئة على دول جارة مثل المكسيك وكندا وعلى دول حليفة في أوروبا الغربية وعلى دولة منافسة تجارياً هي الصين وذلك بنسب عالية وارتجالية لم تخضع لا لحسابات اقتصادية ولا سياسية. اهتزت بورصة أميركا وتراجعت الأسهم بشكل دراماتيكي وتراجع ترامب عن الرسوم فأرجأ تنفيذها ثم تراجع عن النسبة لتعود بورصة الأسهم للارتفاع ما خلق ذبذبة أضرت بالاقتصاد الأميركي..

في محصلة أول نصف سنة من ولايته الثانية، ها هو ترامب يطلب من إيران العودة للمفاوضات؛ يُقرّر أن يفاوض حركة حماس مباشرة وسبق له أن بدأ مسار التفاوض مع “أنصار الله” (الحوثيون) في اليمن.. وبرغم ذلك ثمة قوى لبنانية تريد من حزب الله والحكومة اللبنانية الانصياع الكامل والفوري والتام إلى حد الخضوع والاستسلام

وماذا عن الوعود؟

وعد ترامب في حملته الانتخابية بأن يُنهي حرب أوكرانيا خلال ٢٤ ساعة وعندما فاز كرّر الوعد نفسه. اتخذ ترامب إجراءات هامة لوقف الحرب أهمها وقف المساعدات العسكرية ودعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى البيت الأبيض حيث شهد العالم نقلاً حياً لاشتباك كلامي في قضية دولية خطيرة وبلهجة غير معهودة في السياسة وتشبه خلاف مالك عقار مع المستأجر!

ولا يُخفي ترامب استخفافه بأوروبا ولا استهانته بها برغم أن الأوروبيين هم أجداد الأميركيين وهم مؤسسو الولايات المتحدة الأميركية. بدلاً من زيارة الحليف الأوروبي الأول بريطانيا، غيّر ترامب هذا التقليد واستعاض عنه بزيارة السعودية (ثم الإمارات وقطر) ورفع المملكة إلى مصاف الدولة الأقرب إلى الولايات المتحدة.

وإمعاناً في إجراءاته ضد أوروبا، نجح ترامب في فرض قرار على دول حلف شمال الأطلسي برفع مساهماتهم المالية في موازنة الحلف لتصل إلى ٥٪؜ من الناتج القومي. وبرغم عدم قدرة بعض الدول واحتجاج دول أخرى، نجح ترامب وتبنت قمة الحلف هذا القرار الذي سيتسبب بأزمات اقتصادية في عدد من الدول الأوروبية.

وفي اندفاعته في السياسة الخارجية، فرض ترامب على دول الخليج النفطية الثرية أن تدفع تريليونات الدولارات للاستثمار في الولايات المتحدة. بدأ القرار يترنح ومن الصعب تطبيقه وخصوصاً لجهة الأموال المطلوبة ومدة التسديد وماهية الاستثمارات إلخ… وتُشكك دوائر اقتصادية أميركية ودولية بامكانية وصول هذه المبالغ الكبيرة مع التذكير بتجارب سابقة خلال ولاية ترامب الأولى حيث لم تنفذ إلا بعض وعود شراء الأسلحة الأميركية لأسباب مالية وأخرى تعود لعدم قدرة المصانع على تلبية تلك الصفقات.

الخدعة الإيرانية!

في الملفات الخارجية، فاجأ ترامب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو علناً والأرجح أنه اتفق معه سراً بنيته بدء محادثات مع إيران بشأن البرنامج النووي الإيراني وفعلاً تحدّد ذلك في رسالة أرسلها ترامب عبر دولة الإمارات إلى إيران يعرض فيها المباشرة بمحادثات لتسوية الملف النووي. ردّت إيران بالإيجاب وأرسلت جوابها عبر سلطنة عمان. وبدأت محادثات غير مباشرة على مدى خمس جولات برعاية عُمانية تعالى في موازاتها الكلام عن استثمارات أميركية في حقل غاز فارس وفي المعادن المتوافرة في إيران واستثمارات في قطاعات أخرى.

إقرأ على موقع 180  وسام قام.. حقاً قام

تبين استنادًا إلى ما نشر في الإعلام أن المندوب الأميركي ستيف ويتكوف كان إيجابيا إبّان جولات التفاوض الخمس وأنه كان يغادر بعد كل جولة إلى واشنطن ليعود برأي يختلف عما طرحه من الإيرانيين، وباتت المحادثات متأرجحة ومتذبذبة وتشي بنهاية غير سعيدة. عملياً، أسهم ترامب في خداع الإيرانيين عندما أعلن أنه رفض السماح لنتنياهو بتوجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية وأن جولة الأحد ١٥ نيسان/أبريل ستعقد في مسقط. قبل يومين فوجئت إيران بهجوم إسرائيلي كبير يستحيل أن يُنفّذ من دون مشاركة أميركية.

بعد أيام من الحرب تبين لنتنياهو أن الضربة العسكرية لم تنجح في القضاء على مفاعل فوردو قرب مدينة قم وطلب من ترامب قصف هذا المفاعل الحصين بقنابل BUT57 التي تزن كل منها ١٣ طناً وتُطلق من أحدث قاذفة قنابل B2.

أعطى ترامب مهلة أسبوعين لإيران كي تستجيب لشروطه المعروفة، أي وقف تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية، لكنه بعد يومين فاجأها بقصف مفاعلات فوردو ونتانز وأصفهان من طائرات B2.

وعلى عادته، طلب ترامب، مزهواً بما أقدم عليه، من إيران الاستسلام غير المشروط وقال إنه ينتظر الاتصال الإيراني للموافقة على شروطه. ردّت إيران بإطلاق صواريخ على قاعدة العديد في قطر بعد تحذير قطر (التي أغلقت الأجواء كما جاراتها الخليجيات قبل القصف) وتحذير الولايات المتحدة أيضا. وفعلاً سقطت الصواريخ الإيرانية على قاعدة العديد من دون التسبب بخسائر في الأرواح. دبّ القلق في دول الخليج التي تعهدت لترامب بدفع التريليونات أملاً بحمايتها فإذا بالصواريخ الإيرانية تتساقط ولا تجد من يحول دونها.

أخرج الساحر ترامب من كم قميصه اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل ونسي استسلام إيران. بعدها سرّبت دوائر الاستخبارات الأميركية أن القصف الأميركي تسبب بأضرار للبرنامج النووي الإيراني من شأنها عرقلته لمدة أشهر، لكنه لم يقضِ عليه تماماً كما أعلن ترامب، لتنتقل المعركة إلى الداخل الأميركي بين ترامب والمجموعة الاستخبارية وتوجيه اتهامات بالكذب وسط ذهول الأميركيين والعالم بأسره مما يحدث. كان ترامب يُمثّل على خشبة مسرح والعالم يجلس في صفوف المشاهدين. لا مواقف دولية ولا مبادرات للأمم المتحدة ولا لجامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي. فقط الكل يتفرج وهناك ممثل واحد على المسرح!.

“بلف” لبنان

وإلى لبنان، جاءنا موفد ترامب، سفيره إلى تركيا الديبلوماسي توم برّاك، وهو أيضاً مندوبه إلى سوريا وصاحب القرار الشهير بضم إرهابيي “القاعدة” من الإيغور إلى الجيش السوري الجديد. التقى براك الرؤساء الثلاثة جوزاف عون ونبيه بري ونواف سلام وتسرّبت إلى وسائل الإعلام ورقة عمل أو ورقة شروط أهمها اتخاذ قرار من مجلس الوزراء اللبناني بنزع سلاح حزب الله ووضع جدول زمني لذلك. أما عن انسحاب إسرائيل فقد ورد في العرض المُسرّب أنه مقابل كل عملية تسليم سلاح تُنفّذ إسرائيل انسحاباً من منطقة ما. صادف تسريب الورقة مع كلام المندوب الإسرائيلي في لجنة الإشراف على وقف إطلاق النار وهو كلام رسمي من أن إسرائيل لن تنسحب إلا بعد تسليم كل سلاح حزب الله.

والملاحظ، حسب التسريبات، أن الورقة تتضمن تزامناً غامضاً بين التسليم والانسحاب وغياباً لأي ضمانات أميركية أو دولية بالانسحاب الإسرائيلي فضلاً عن أنها لم تتضمن الطلب من إسرائيل وقف هجماتها المستمرة على لبنان. والملفت للانتباه أن بعض هذه الهجمات يستهدف محاولات البناء في بعض البلدات أو بيوتاً جاهزة تتعرض فور وصولها للقصف الإسرائيلي.

في محصلة أول نصف سنة من ولايته الثانية، ها هو ترامب يطلب من إيران العودة للمفاوضات؛ يُقرّر أن يفاوض حركة حماس مباشرة وسبق له أن بدأ مسار التفاوض مع “أنصار الله” (الحوثيون) في اليمن.. وبرغم ذلك ثمة قوى لبنانية تريد من حزب الله والحكومة اللبنانية الانصياع الكامل والفوري والتام إلى حد الخضوع والاستسلام.

لهؤلاء لا بد من نصيحة: إذا كان ترامب يُضمر للبنان الحرب، فلن تنفع كل الانصياعات في وقفها، وإذا كان يُريد أن “يبلف” لبنان (تعبير يستعمله المقامرون)، فليس علينا أن نُصدّق “البلف”.

خيرُ ما يفعله اللبنانيون هو التفاوض مع ترامب ومبعوثه على طريقة أن ورقته ليست مُنزّلة من السماء بل قابلة للأخذ والرد.. ولنا في ما جرى مع غرينلاند وباناما وكندا والصين وأوكرانيا وحماس والحوثيين وغيرهم ما يُشجعنا على التفاوض والتمسك بسيادتنا وحقوقنا وأوراق قوتنا..

Print Friendly, PDF & Email
إلياس فرحات

عميد ركن متقاعد

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الفدرالية حل أم مشكلة لسورية؟