لم يعد السؤال لماذا يُبدي الرئيس الأميركي الديموقراطي جو بايدن كل هذه الأنانية، ويصر على قيادة لائحة حزبه في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. النتائج تكاد تكون معروفة سلفاً منذ ليلة المناظرة في 27 حزيران/يونيو الماضي في مواجهة الرئيس السابق دونالد ترامب؟
السؤال، لماذا ترك الكبار في الحزب الديموقراطي، أمثال الرئيسين السابقين باراك أوباما وبيل كلينتون، الأمور تصل إلى هذا الحد من التدهور، ولم يحاولوا اقناع بايدن قبل عام من الآن بأن يُفسح المجال لمرشح ديموقراطي آخر؟ ربما حاولا، ولم يقتنع الرئيس بالفكرة وأصر على أنه قادر جسدياً وذهنياً على القيام بأعباء الرئاسة لأربع سنوات مقبلة. ظهرت تغريدة أوباما عبر منصة “إكس”، التي أعلن فيها دعمه لبايدن عقب المناظرة وكأنها “تصرف مستوحى من الشعور بالذنب”، وفق صحيفة “الغارديان” البريطانية.
يعيش المقربون من بايدن وفي مقدمهم زوجته جيل، حالة من الانكار في ما يتعلق بقدرات الرئيس. وتحوّلت عبارة السيدة الأولى عندما أثنت على أداء زوجها في تجمع انتخابي بولاية كارولاينا الشمالية غداة المناظرة البائسة قائلة: “جو، لقد أجبت على كل الأسئلة، إنك تعرف كل الحقائق”، إلى موضوع تندر في الصحافة الأميركية، مشبهين المشهد وكأنه بين ممرضة ومُسنٍ أكل وجبة الغذاء بالكامل، أو مشهد معلمة في مدرسة للحضانة تثني على طفل قام بواجباته. اليوم، هناك خوف من أن جيل بايدن تتجاوز دورها كسيدة أولى إلى مرحلة اتخاذ القرارات عن الرئيس، ويشبّهونها بنانسي ريغان، زوجة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان.
هل يكفي هذا لإقناع 52 مليون مشاهد تابعوا المناظرة الرئاسية الأولى، بأن بايدن مناسب صحياً وذهنياً لقيادة الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة أو حتى بما تبقى له من أشهر ولايته الأولى، بينما هو يكافح للفظ الكلمات وتذكُّر الوقائع. رئيس غير قادر على استكمال جواب حول العناية الصحية، فكيف سيتذكر الشيفرة النووية؟ تسأل بتهكم مجلة “الإيكونوميست” البريطانية.
قرار بايدن بعدم الانسحاب من السباق، يشبه إلى حد كبير قرار ماكرون الإنفعالي في 9 حزيران/يونيو بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة رداً على الهزيمة المدوية لحزب النهضة الوسطي الذي يتزعمه في انتخابات البرلمان الأوروبي والفوز المدوي للتجمع الوطني اليميني المتطرف وللجبهة الشعبية الجديدة التي يقودها ميلانشون
وتُظهر استطلاعات الرأي أن ولايات يجب أن يفوز بها بايدن للبقاء في البيت الأبيض، صار ترامب يتقدم فيها مثل فيرجينيا ومينيسوتا ونيومكسيكو. هذا واقع دفع حتى الآن نائبان ديموقراطيان ورئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الديموقراطي مارك وارنر، للمطالبة بانسحاب بايدن الآن قبل فوات الأوان. كما أن المتبرعين الكبار الذين تعتبر أموالهم عاملاً حاسماً في معركة بايدن، يراقبون عن كثب ويزداد تشككهم بقدرات الرئيس الحالي.
الذين يعرفون بايدن يُدركون بأنه عنيد، ولا يزال يتمسك بفكرة أنه الوحيد القادر على هزيمة ترامب وإنقاذ الديموقراطية في الولايات المتحدة. عنادٌ يشبه عناد ترامب نفسه!
وقرار بايدن بعدم الانسحاب من السباق، يشبه إلى حد كبير قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإنفعالي في 9 حزيران/يونيو الماضي بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة رداً على الهزيمة المدوية لحزب النهضة الوسطي الذي يتزعمه في انتخابات البرلمان الأوروبي والفوز المدوي لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف وللجبهة الشعبية الجديدة التي يقودها زعيم حزب “فرنسا الأبية” اليساري التروتسكي السابق جان-لوك ميلانشون.
مغامرة ماكرون
بايدن في طريقه إلى تسليم أميركا لترامب وشعبويته مجدداً، بينما ماكرون جعل فرنسا تقع فريسة اليمين المتطرف واليسار المتطرف، وسقط رهانه على أن الفرنسيين سيتجاوبون مع دعوته إلى الوقوف سداً منيعاً في وجه التطرفين، وذهبت مناشدات نجم كرة القدم الفرنسي كيليان مبابي للتخلي عن اليمين المتطرف، سدى.
الصدمة التي توخاها بايدن من مناظرته الأولى المبكرة، ليقول للأميركيين، أنا جاهز للسنوات الأربع المقبلة، ارتدّت عليه. كذلك ارتدّت على ماكرون محاولته رمي الكرة على الناخبين ووضعهم أمام أحد خياري التطرف أو الوسطية. لقد اختاروا ببساطة التطرف يميناً ويساراً، والوسطيون واليمينيون التقليديون (الديغوليون) في طريقهم إلى التلاشي السياسي!
وبرغم أن ماكرون أوجد الكثير من الوظائف، لكنه لم ينجح يوماً في أن يكون قريباً من الفرنسيين، الذين لا يزالون أوفياء لعملية قتل ملوكهم منذ الثورة الفرنسية.
أوقع ماكرون فرنسا في الفوضى السياسية ودفعها بخطى حثيثة نحو المجهول. لن تتأثر فرنسا بالمشهد السياسي الجديد الذي سينجم عن الجولة الثانية من الاقتراع اليوم (الأحد)، بل أوروبا كلها ستكون تحت “مقصلة” النتائج، والمستشار الألماني أولاف شولتس يتحسّس رأسه منذ الآن، بعد أسوأ أداء لحزبه الإشتراكي الديموقراطي منذ تأسيسه.
كل ما فعله ماكرون، هو أنه جعل زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن المتحدرة من الجبهة الوطنية ذات الجذور النازية، أقرب إلى الرئاسة في عام 2027.
حكم المحافظين رفع نسبة البريطانيين الذي لا يثقون بنخبهم السياسية إلى 45 في المئة. وستارمر لا يملك ترف الوقت. وهو مطالب بإنجازات سريعة تحدث فارقاً مع الحكم السابق وإلا لن يطول به الأمر حتى يبدأ التذمر منه أيضاً
ستارمر وإصلاح الفوضى
في بريطانيا، منح الناخبون تفويضاً لحزب العمال بزعامة كير ستارمر لم يحصل عليه الحزب حتى عندما كان بزعامة طوني بلير في التسعينيات الماضية. لكن إصلاح الفوضى التي خلّفها حكم المحافظين الذي اتسم بالشعبوية منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل أربع سنوات، بقيادة ديفيد كاميرون وصولاً إلى زعامة تيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تروس وانتهاء بالمصرفي ريشي سوناك، جعل بريطانيا في أسوأ وضع اقتصادي منذ الأربعينيات الماضية.
البريطانيون اختاروا العمال ليس اقتناعاً بأن ستارمر لديه عصا سحرية، وإنما عقاباً للمحافظين على سنوات حكمهم التي عادت ببريطانيا سنوات إلى الوراء. حزب نخرته الانقسامات وفضيحة تلو فضيحة، وصولاً إلى ترحيل اللاجئين إلى رواندا، الحل الذي ابتكرته وزيرة الداخلية السابقة سولا برفرمان، مع كل تعبيراته التي تفيض عنصرية.. وكانت النتيجة هزيمة انتخابية مدوية لا مثيل لها منذ تأسيس حزب المحافظين في العام 1834 وانتصار لا مثيل له منذ عقود للعماليين الذين تأسس حزبهم مطلع القرن الماضي.
حكم المحافظين رفع نسبة البريطانيين الذي لا يثقون بنخبهم السياسية إلى 45 في المئة. وستارمر لا يملك ترف الوقت. وهو مطالب بإنجازات سريعة تحدث فارقاً مع الحكم السابق وإلا لن يطول به الأمر حتى يبدأ التذمر منه أيضاً.
ونظراً إلى التفويض الذي يملكه حزب العمال، اليوم، ليس ثمة من ذريعة لعدم التحرك لإصلاح ما خربته شعبوية المحافظين، من الاقتصاد إلى الهجرة، إلى السياسة الخارجية وفي مقدمها اتخاذ موقف لا يقوم على المراوغة من الحرب في غزة، والاعتراف بدولة فلسطين.
من “البريكست” إلى جائحة كورونا إلى الحرب الروسية-الأوكرانية، كلها أحداث لعبت دوراً في تأخير النمو الاقتصادي وتزايد الفقر، وجعل 7.5 ملايين شخص ينتظرون العلاج في الخدمة الصحية الوطنية التي تُموّلها الدولة البريطانية. السنوات الأخيرة، شهدت أرقاماً قياسية في عدد الإضرابات التي نفّذها الأطباء وعاملون في قطاعات صحية وخدمية أخرى.
هل يستطيع ستارمر إصلاح الحال؟ يصعب العثور على جواب.
مفاجأة إيران.. الإصلاحية
المفاجأة المدوية، أيضاً كانت فوز المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان بالرئاسة الإيرانية في مواجهة المرشح المحافظ سعيد جليلي، وما يمثله ذلك من استعادة التوازن داخلياً في مواجهة مجلس شورى (برلمان) متشدد واحكام القبضة على كل مؤسسات الدولة من المحافظين (مجلس صيانة الدستور ومجلس الخبراء والسلطة القضائية)؛ زدْ على ذلك ما يعنيه فوز رمز إصلاحي لجهة امكان إعادة فتح الأبواب على مصراعيها مع الغرب واستئناف المفاوضات النووية غير المباشرة.
انتخاب بزشكيان الذي يحظى بتأييد محمد خاتمي وحسن روحاني ومحمد جواد ظريف، يشي بمقاربة إيرانية جديدة، في مواجهة الضغوط الغربية، واستعداداً لمرحلة قد يعود فيها ترامب إلى البيت الأبيض، وبالتالي أولوية تحصين الجبهة الداخلية الايرانية واعطاء إشارات إلى الخارج بنية الاتفاق لا الاشتباك
بزشكيان، جرّاح القلب، يعتقد أن الطريق إلى استعادة ثقة الناس بالنظام تمر عبر انعاش الاقتصاد، وبأن لا سبيل لتحقيق ذلك، من دون رفع العقوبات الأميركية، والطريق إلى ذلك تمر بالتوصل إلى اتفاق على اعادة العمل باتفاق 2015 مع القوى الغربية، أو بالتوجه إلى مفاوضات جديدة.
كذلك، يتحدث بزشكيان عن تعزيز دور المرأة في المجتمع والتعامل بإيجابية مع مطالب المحتجين الذين خرجوا إلى الشوارع عقب وفاة مهسا أميني عام 2022 في مركز للشرطة التي اعتقلتها بسبب عدم التزامها قواعد ارتداء الحجاب الصارمة.
انتخاب بزشكيان الذي يحظى بتأييد الرئيسين السابقين الاصلاحي محمد خاتمي والمحافظ الوسطي حسن روحاني ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف (مستشار حملته الانتخابية)، يشي بمقاربة إيرانية جديدة، في مواجهة الضغوط الغربية، واستعداداً لمرحلة قد يعود فيها ترامب إلى البيت الأبيض، وبالتالي أولوية تحصين الجبهة الداخلية الايرانية واعطاء إشارات إلى الخارج بنية الاتفاق لا الاشتباك.
وأكثر ما كان يُقلق النظام الإيراني هو نسبة المشاركة المتدنية في انتخابات مجلس الشورى في آذار/مارس (41 في المئة) وفي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الحالية في 28 حزيران/يونيو (40 في المئة)، وهذا الرقم الأخير هو الأدنى منذ قيام الجمهورية الإسلامية في العام 1979.
بهذا المعنى، نجح النظام في جذب شريحة من الإصلاحيين والمترددين وربما من المحافظين أنفسهم للاقتراع لبزشكيان مما رفع نسبة التصويت إلى نحو 50 في المئة، أي أكثر بقليل من نسبة المشاركة في انتخاب الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي في 2021.
وبرغم أن خامنئي يعود إليه القول الفصل في السياسة الخارجية، يبقى للرئيس الإيراني الذي يُعتبر الشخصية الثانية في النظام، دوره المؤثر في القرار وتسيير شؤون الدولة.
مع بزشكيان، المُتحدر من تبريز كبرى مدن محافظة أذربيجان الشرقية، يحمل انتخابه رسالتي تهدئة إلى الداخل والخارج، في وقت تمر بها المنطقة بتوترات عالية بفعل استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة ومخاطر توسعها نحو لبنان وتحولها نزاعاً إقليمياً قد لا تبقى طهران بمنأى عنه وربما يضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
في محصلة هذه الجردة الانتخابية، نحن أمام عالم يتغير حتماً في ظل ما يُشبه الحربين العالميتين على أرض كل من أوكرانيا وغزة، فهل يتحمل العالم حروباً جديدة أم تصب نتائج هذه الانتخابات في خانة التمهيد للتسويات؟