

بدت حكومة بنيامين نتنياهو مطمئنة جداً إلى حالة العجز المسيطرة على الواقعين العربي والإسلامي، منذ لحظة “طوفان الأقصى” قبل سنتين حتى يومنا هذا، ناهيك عن تمدد العدوان إلى كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن. فمن يصمت على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير الممنهج لن يُحرّك ساكناً حيال غارة إضافية على دولة عربية هنا أو هناك، بحسب اعتقاد القادة “الإسرائيليين”.
وعلى الرغم من الإدانة الشديدة اللهجة لـ”إسرائيل” في البيان الختامي لقمة الدوحة، فإنها لم تخرج عن توصيف الحال من دون وضع خطة مشتركة لمعالجة هذا الواقع، وكأننا أمام توصيف طبي لحالة المريض من دون أن نُحدّد له العلاج أو الدواء اللازم. غير أن القاسم المشترك الذي التقى عليه قادة سبعٍ وخمسين دولة في الدوحة هو شعورهم بأن بلادهم باتت مكشوفة أمنياً ودفاعياً على الرغم من استثمارهم تريليونات الدولارات في اتفاقات عقدوها مع الولايات المتحدة واعتقدوا أنها تؤمّن لهم المظلة الأمنية والدفاعية المطلوبة في مواجهة أي تهديد خارجي، فأتى العدوان “الإسرائيلي” على قطر بغطاء أميركي ليُشكّل الدليل الملموس أن حجر الزاوية في السياسة الأميركية هو ليس فقط حماية “إسرائيل” بل تقديم كل غطاء لازم لها عسكرياً وأمنياً واستخبارياً ودبلوماسياً لممارسة كل أشكال الصلف والرعونة والعدوان ضد كل ما تعتبره “تهديداً” سواء أكان قريباً أم بعيداً، غير أن هذا الدليل لم يترجم خطة عمل مشتركة للرد على العدوان.
إيران والسعودية سالكة.. ولكن
من هنا بدأت كل دولة تعيد النظر في حساباتها الدفاعية بمعزل عن باقي الدول التي تشاركها المخاوف نفسها، وكانت إيران أول من ذاق طعم المرارة إثر تعرضها لعدوان “إسرائيلي” أميركي في يونيو/حزيران الماضي، فتحركت وفق منطق “اضرب الحديد وهو حامي”. في هذا السياق، جاءت تلبية الرئيس مسعود بزشكيان للدعوة إلى قمة الدوحة واستفاد منها لعقد سلسلة اجتماعات أبرزها مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وذلك على مسافة نحو أسبوع من زيارة العمل التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى الرياض والتقى خلالها كبار المسؤولين السعوديين وناقش معهم ملفات عديدة أبرزها ملف العلاقات الثنائية والأمن الإقليمي.
ولم تمض ساعات على انتهاء قمة الدوحة حتى كان رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني يحط في الرياض حيث التقى بن سلمان أيضاً وعقد لقاءات مع مسؤولين أمنيين سعوديين بقيت بعيدة عن الإعلام، وتلا ذلك مباشرة خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الذي دعا فيه إلى طي صفحة العداء بين حزبه وبين السعودية وفتح حوار بينهما قائلاً إن سلاح الحزب لن يُوجّه إلى السعودية أو إلى لبنان بل فقط ضد “إسرائيل”.
والملاحظ أن السعودية تفصل بين مسار علاقاتها الثنائية مع إيران وفق قاعدة التزم بها الطرفان منذ اتفاق بكين في آذار/مارس 2023 حتى يومنا هذا لجهة تنقية العلاقات الثنائية من الشوائب، وبين مسار علاقاتها المأزومة مع حلفاء إيران في لبنان واليمن والعراق. على هذا الأساس التزمت الرياض الصمت إزاء دعوة الشيخ قاسم، والصمت هنا هو موقف، فهو لا يعني رفض مبادرة الشيخ نعيم قاسم لكنه لا يعني أيضاً المضي بهما قدماً، بل تركت السعودية لـ”ملائكتها” في وسائل الإعلام الحليفة لها مهمة وضع شروط لهذا الحوار وأولها تخلي حزب الله عن سلاحه وهذا ما يُرضي أميركا و”إسرائيل” معاً.
السعودية وباكستان.. بدل ضائع
ثاني دولة بدأت تعيد حساباتها بعد إيران هي السعودية، التي وعلى مدى النصف قرن المنصرم كانت من أقرب الحلفاء للولايات المتحدة في المنطقة العربية، فإذا كانت خطوة اللقاءات التي عقدها المسؤولون السعوديون والإيرانيون مهمة لمجرد حصولها لا سيما بعد عامين ونيف من المصالحة التي جرت بينهما في العاصمة الصينية، فإنها ستبقى محدودة في نتائجها في الوقت الراهن لأن القيادة السعودية تعرف الخطوط الحمر الأميركية حيالها وتعرف جيداً حساسية التقارب الفعلي مع إيران عند الإدارة الأميركية، لذلك فقد سرّعت السعودية الخطى ومضت إلى توقيع اتفاق أمني ودفاعي مع باكستان، وهي دولة إسلامية سنية صديقة لإيران وحليفة للولايات المتحدة الأميركية وعضو في نادي الدول النووية، وهذه الخطوة هي أكثر أهمية من اللقاءات مع المسؤولين الإيرانيين، إذ أنها تبعث برسالة استياء واضحة لواشنطن لكنها لا يفترض أن تثير حساسيتها كثيراً، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنها تؤمن لها الغطاء الأمني والدفاعي الذي تحتاجه، وما عزّز هذا الغطاء هو اعلان باكستان أن سلاحها النووي هو من ضمن هذا الاتفاق واعلان السعودية أنها باتت تحت المظلة النووية الباكستانية.
مصر.. الجديدة
ثالث دولة أطلقت العنان لحساباتها الجديدة هي مصر، إذ أن رئيسها عبد الفتاح السيسي دعا في كلمته في القمة إلى إنشاء قوة عربية اسلامية مشتركة، لكن دعوته هذه لم تلقَ أي صدى لدى الحضور. هذا في السياسة، أما في الميدان وبحسب المسؤولين “الإسرائيليين” فإن مصر عزّزت قواتها العسكرية في شبه جزيرة سيناء بأعداد كبيرة تفوق تلك المتفق عليها في اتفاقية كامب ديفيد وبسلاح يتجاوز الاتفاق أيضاً، من ضمنه الدبابات ومصانع صواريخ تحت الأرض وتوسيع المطارات العسكرية فيها.
مصر، وإن كانت تدور في الفلك الأميركي منذ أكثر من نصف قرن فهي أكثر الدول قلقاً من رعونة وصلف الحكومة الفاشية الصهيونية الحاكمة في “إسرائيل” اليوم. فهي مُحاطة بزنار نار من الحروب في ليبيا غرباً وفي السودان جنوباً وفي قطاع غزة شرقاً والبحر الأحمر (باب المندب) شرقا وجنوباً، ناهيك عن التنمر الذي تمارسه عليها أثيوبيا بدعم أميركي و”إسرائيلي” في موضوع “سد النهضة”، واقتطاع حصة كبيرة من مياه نهر النيل على حساب كل من مصر والسودان. فوق هذا كله كلام نتنياهو عن دولة “إسرائيل الكبرى” التي تشمل قسماً كبيراً من الأراضي المصرية ناهيك عن مسعاه لتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء قبل الإستيلاء على القطاع واطلاق حملة استيطان فيه، ما يرمي قنبلة ديموغرافية كبيرة في حضن مصر تتمثل بمليوني فلسطيني يعيشون اليوم في القطاع.
غير أن تحالف مصر الوطيد مع الولايات المتحدة لم يبدد القلق لدى قيادتها لا سيما بعد العدوان على قطر والغطاء الذي قدّمته واشنطن لهذا العدوان على الرغم من أن قطر حليف موثوق لواشنطن، لذلك شاهدنا رئيس مصر يستخدم مفردة “العدو” للمرة الأولى منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد، وهذا الأمر جعل أحد المسؤولين العرب يُردّد أن عقوداً من الزمن كان يُراد خلالها جعل مفرة “العدو” حصراً بإيران في أذهان القيادات العربية، وإذ بضربة الدوحة، تقلب الأمور رأساً على عقب وتُبدّد كل الجهود التي بُذلت في هذا السياق. هذا ما يُفسّر ارتفاع منسوب الحذر والقلق لدى القيادة المصرية، وبخاصة بعد تصريحات نتنياهو ووزراء حكومته بأنهم سيضربون “الإرهاب” في كل مكان بلا مراعاة لأي حدود وأي سيادة للدول. من هنا فإن القيادة المصرية تسترشد في سياستها الراهنة بمقولة مشهورة للرئيس المصري الراحل حسني مبارك تقول “يللي متغطي بالأميركان.. عريان”.
أردوغان.. قنّاص الفرص
أما تركيا، قنّاصة الفرص، المهنة التي يُتقنها رئيسها رجب طيب أردوغان، فتمارس براغماتية قلّ نظيرها في إدارة سياستها الخارجية. من جهة، تبدو مطمئنة لعدم تجرؤ “إسرائيل” على الاعتداء على سيادتها بسبب عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تنص المادة الرابعة من نظامه الداخلي على أن أي اعتداء على عضو من أعضائه هو اعتداء على كل أعضاء الحلف، ومن جهة أخرى، تراقب الموقف من أجل تحويله إلى فرصة لتحقيق المكاسب، تماماً كما حصل عندما شجّعت “هيئة تحرير الشام” على خوض معركة اسقاط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
كما أن تركيا، وفي ظل الاعترافات الدولية الواسعة والمتتالية بدولة فلسطين، تعتقد أن “إسرائيل” لن تتمكن من فرض هيمنتها على المنطقة العربية، وستكون الولايات المتحدة بحاجة ماسة لحليفها التركي لبسط سلطتها في المنطقة.
أما الأردن، فهو الحلقة الأضعف في هذه المشهدية، والعين “الإسرائيلية” ليس فقط على تهجير سكان الضفة الغربية إليه بل بالاعلان “الإسرائيلي” الصريح عن نوايا لضم غور الأردن إلى دولة “إسرائيل” بعد ضم الضفة الغربية، وهنا فإن الملك الأردني عبدالله الثاني في وضع لا يُحسد عليه ولم يقم حتى اللحظة بأي خطوة استراتيجية استباقية، فهو إن قاوم العربدة الإسرائيلية سيكون مهدداً وإن وافق على التهجير سيكون التهديد أكبر!
يبقى من الضروري انتظار ما ستفعله “إسرائيل” في ظل هذا المشهد، فهي شاركت تركيا اقتناص فرصة سقوط الأسد لتسارع إلى احتلال مساحات شاسعة في جنوب سوريا من دون قتال وتُقدّم نفسها حامية للأقليات فيها (بالأخص الدروز والأكراد)، وتفرض نفسها لاعباً أساسياً في الوضع الداخلي السوري، ولكن ومهما أظهرت من جبروت وقوة لم تستطع على مدى عامين من إنهاء أي ملف مفتوح معها من فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية) إلى لبنان والعراق واليمن وإيران على الرغم من الدعم الأميركي اللامحدود. لذلك فإن هذه الحكومة مطمئنة لهذا الدعم من إدارة أميركية هي الأكثر يمينية في التاريخ. كما أن القادة الإسرائيليين يعتبرون أن كل الاعترافات الدولية بدولة فلسطين لن تكون سوى حبراً على ورق.
لا شك أن المنطقة العربية تتأثر بالمحيط الأوسع لا سيما تطورات الحرب في أوكرانيا والتي باتت تهدد فعلاً بالتدحرج إلى مستويات أوسع بعد تهديدات حلف “الناتو” لروسيا على خلفية اتهامها بخرق السيادة البولونية مرات عدة بطائرات حربية وأخرى مُسيّرة. كما لا بد من النظر إلى تطورات الصراع الاقتصادي والتجاري الذي تخوضه الصين مع الولايات المتحدة وانعكاسه على منطقتنا لجهة تأثير أطراف هذا الصراع فيها. ولكن في كل الأحوال بالامكان الاستنتاج أن العدوان على قطر أدى إلى نتائج لم تكن في حسبان القادة “الإسرائيليين” وسحب منهم ومن الولايات المتحدة كل ذريعة للمطالبة بسحب سلاح المقاومة إن كان في لبنان أو في العراق وأعطى دفعاً لمنطق هذه المقاومة بأن المجتمع الدولي لا يحمي الضعفاء.